Saturday, September 29, 2012

رهانات التنزيل الحقيقي للدستور


الدكتور عادل الخصاصي

إن التحولات التي يعرفها المشهد السياسي الحالي تدعو إلى طرح مجموعة من التساؤلات عن مستقبل السياسات العمومية بالمغرب، بعد أن إنتصرت السياسة للشعوب في الدول العربية و أخذت تتصالح آلة الحكم

ا لاشك فيه أن أحداث الربيع العربي، الذي لم تنته مشاهد فصوله في بعض الدول حتى اليوم، سرعت من وثيرة التحول الديموقراطي بالمغرب و أنضجت نقاشا سياسيا كان سيقبر بعد المذكرات التي طالبت من خلالها بعض الأحزاب السياسية بتعديل الدستور المغربي. لكن الإستجابة السياسية التي إستشرفت عمق أنين الشارع المغربي و همست في أذن النخبة من أجل تغيير الواقع الذي إبتذلته بعض الأطياف السياسية الباحثة عن الإثراء بلا سبب لم تحسن الإخراج النهائي لدستور فاتح يوليوز 2011.

هذا الدستور الذي و إن لم يشف غليل الأصوات المطالبة بالملكية البرلمانية إلا أنه سجل نقلة نوعية في المجال الحقوقي و القانوني لأنه أقر مبادئ الحكامة الجيدة التي تعد لازمة لأي تغيير سياسي، كما كرس الفصل بين السلطات و أنضج السلطة التنفيذية بالمغرب، من خلال تمكين مؤسسة رئيس الحكومة من صلاحيات مهمة لا تجعل من القائم عليها رئيسا حقيقيا للسلطة التنفيذية و إنما على الأقل المنسق العام لسياسات الإدارة العمومية.

فنجاح الإستثناء المغربي في تدبير أحداث الربيع الديموقراطي العربي يكمن في حسن تقدير المخاطر و ملء الفراغ السياسي، غير أن الدستور لوحده غير قادر على صنع التحول، ففصوله قد تبقى بدون روح إذا غابت المبادرة السياسية عن النخبة الحاكمة. ذلك أن التطبيق الحقيقي لهذه الوثيقة السامية في هرم تدرج قواعد القانون يحتاج إلى إخراج القوانين التنظيمية إلى أرض الواقع، و هنا يطرح التساؤل حول وثيرة المبادرة الحكومية في تنزيل دستور فاتح يوليوز عنوان المرحلة الحالية في وقت توجد قوانين تنظيمية مفصلية بالنسبة للحياة المالية و السياسية للدولة أستهلك النقاش بصددها في ظل الحكومة السابقة و لا زالت تراوح مكانها إلى اليوم.

إن المناقشة المعمقة للنصوص القانونية مطلب لا محيد عنه في مجال الحكامة التشريعية بل إن بعض الدول تذهب بعيدا في مجال تحليل آثار التشريعات قبل سنها، غير أن ما يشهده إعتماد القوانين التنظيمية التي جاء بها دستور فاتح يوليوز يدعو إلى التساؤل عن صحة مؤشرات تفعيل هذا الدستور، فإذا كان يحتاج إخراج قانون تنظيمي واحد مدة تسعة أشهر فكم ستتطلب باقي القوانين التنظيمية الأخرى؟

إن وثيرة إعتماد القوانين التنظيمية تعطي الإنطباع بالعجز السياسي في التدبير العمومي، فتقدير البحث عن الأعذار بدافع حضور النوايا الحسنة أو بعلة ضيق المدة الزمنية لا يفيد في السياق الحالي، لأن التغيير يفترض أن يبدأ من الذات أولا و من مناهج التفكير ثانيا، كما أن مدة حياة الحكومة- تسعة أشهر-كافية لإنجاب أكثر من قانون تنظيمي، فالتحديات التي تطرحها الظرفية الدولية الإقتصادية تقتضي اليقظة السياسية و السرعة التدبيرية والإستفادة من الخبرات الوطنية و الأجنبية في مجال السياسات العمومية.

مما لاشك فيه أن عمل الحكومة الحالية تؤطره العولمة التي سرعت الأحداث الدولية لتكشف عن بروز صراع محموم بين جميع الوحدات الوطنية من أجل مواكبة هذا الفيض من التحولات الإقتصادية التي تزخر به الساحة الدولية و ذلك عن طريق مواءمة تشريعاتها الوطنية مع معطيات الإقتصاد الدولي. فأين المخطط التشريعي ضمن مخاض التعامل مع إكراهات الوضع الدولي الحالي الذي كشف عن عجز في الميزان التجاري وعجز في ميزان الأداءات ناهيك عن عجز في الميزانية و غياب واضح لنموذج التنمية ضمن أبعادها المختلفة؟

إن تأهيل المشهد السياسي المغربي يتطلب مواكبة للمتغيرات الدولية من أجل رفع رهانات تحقيق التنمية و إعتماد آليات المصاحبة و إرساء ضوابط الحكامة التشريعية، مع ما يتطلبه ذلك من يقظة و تتبع قانونيين في أفق إقرار إستراتيجية لهندسة التشريع المغربي.

فالتتبع القانوني ينبغي أن يساءل الإجتهادات المحققة في مجال التشريع بالشكل الذي يوظف قانونيا في خدمة الإستقرار السياسي عن طريق إعتماده مراعاة للخصوصيات الوطنية وتطبيقها التطبيق الأمثل، و من دون إغفال لظاهرة التنافس التشريعي القائمة اليوم بين الأنظمة القانونية و التي حولت التشريع إلى حقيقة إستراتيجية متحركة، لإرتباط هذا التشريع بالحلول الخارجية نظرا لتنامي دور المقاولات العابرة للحدود بشكل حول المشهد القانوني إلى سوق حقيقي يتكون من منتجات و بائعين ومشترين.

و الملاحظ أن مثل هذه الآليات تغيب عن التدبير العمومي الحالي كما تغيب لحد الآن مسألة إعتماد أجهزة متخصصة في اليقظة و التتبع القانوني، اللهم إلا بالنسبة لبعض المصالح المتفردة ضمن هياكل بعض الوزارات، و التي و إن كانت تحمل تسمية التتبع واليقظة القانونية، إلا أن مهامها الرئيسية لا تخرج عن إطار تحيين و تتبع النصوص التشريعية المرتبطة بقطاعها، دون أن تحمل هذا الهاجس العام المتمثل في تدبير المخاطر القانونية و تحليل الآثار المرتقبة للتشريعات المعتمدة ضمن إستراتيجية الهندسة والذكاء القانوني المعتمدة في الدول المتقدمة.

فالحاجة ماسة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالنسبة لخيار تأهيل التشريع المغربي لإعتماد هذه الإستراتيجية الذكية في المجال التشريعي، حيث يبدو من المفيد خلق مرصد وطني توكل إليه مهمة التتبع و اليقظة القانونية، و يكون متمتعا بالشخصية القانونية وبالإستقلالية المالية حتى يضطلع بالمهام الموكولة إليه بكل حياد وتجرد فيما يخص تتبع و رصد تطور النصوص القانونية و التشريعية، حتى تكون قراراته وتوصياته ذات قوة إقتراحية تساهم في بلورة السياسات العامة في المجالات التنموية.

فلا يقتصر الأمر على معرفة شمولية بحاضر القانون من أجل تسخيره في خدمة التنمية، بل يتعين أكثر من ذلك إستشراف مستقبله وبرمجة الإستراتيجيات المختلفة على ضوئه. فمن الضروري تتبع و مراقبة و دراسة إعداد مشاريع و مقترحات القوانين و المراسيم والمناشير، لأن المعرفة السليمة والحقيقية بالبيئة القانونية هي التي تمكن من ترقب المخاطر الناجمة عنها، لذلك نجد الجماعات الضاغطة لا تحاول الوقوف عند حدود هذا المستوى من التأثير على الصياغات القانونية، بل و كذا توجيه القاعدة القانونية على النحو الذي توجه من خلاله البيئة التشريعية نحو الوجهة التي تخدم مصالحها الخاصة. و لربما منشأ هذا الوضع ضعف الحكامة التشريعية الناتجة عن قصور آليات و أجهزة التأهيل القانوني بالشكل الذي لا يسمح لها ببلوغ مقاصد الإستجابة للمتطلبات التنموية الوطنية.

هذه بعض آليات الحكامة التشريعية للدول التي تتخذ المبادرة السياسية في تنزيل دساتيرها على أرض الواقع و لا تتنصل عن مسؤوليتها التاريخية في كسب رهان التنمية و التغيير السياسي و الإجتماعي و التاريخي، فماذا تتنظر الحكومة المغربية من أجل جني ثمار الربيع المغربي؟



d.adil.elkhsassi@gmail.com

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا