Friday, September 28, 2012

السنهوري والقانون المدني العربي المعاصر

                                        السنهوري والقانون المدني العربي المعاصر
غاي بيكور*
كانت للفقيه والقانوني المصري الكبير عبد الرزاق السنهوري (1895- 1971م) إسهاماتٌ أساسيةٌ في صياغة القانون المدني المصري، والقوانين في بلدان عربية أخرى رئيسية. وقد لفتت الانتباه في شخصية السنهوري وإسهاماته معارفه العميقة بالفقه الإسلامي، واقتناعه بإمكان المزج بين الموروث الفقهي الإسلامي الثري، والقوانين المدنية الأوروبية الحديثة. وقد بدا ذلك واضحاً على الخصوص في عمله على القوانين بمصر والعراق. وقد كُتبت حول السنهوري وأعماله القانونية والفقهية أعمالٌ علميةٌ عديدة. ومن بين تلك الدراسات المعاصرة أطروحة غاي بيكور (2007م) التي نوردُ فيما يلي تلخيصاً لها، يتوخّى الإحاطةَ بأهمّ مرتكزاتها.
في التقديم يلفت الكاتب النظر إلى فرعٍ في الدراسات القانونية قد جرى إهمالُهُ طويلاً، وهو القانون المدني المصري بموادّه البالغة 1149 (في العام 1949م). وهو الذي سُمّي آنذاك القانون الجديد، بالنظر للتعديلات الكثيرة التي أدخلها على القانون الحديث/القديم. وقد قام القانون الجديد بمعالجة سائر المجالات في الحياة المدنية المصرية (الملكية، والعقود، والأضرار) باستثناء مدوَّنة الأحوال الشخصية التي ظلّت هي وإصلاحاتها خاضعةً للمرجعية المنفردة للشريعة الإسلامية. ويذهب المؤلّف إلى أنّ هذا القانون ظُلم بعد قيام ثورة يوليو عام 1952م، عندما اعتُبر نتاجاً للفلسفة الطوباوية للسنهوري. إذ إنه يستند إلى فهمٍ اجتماعيٍ قويٍ وشامل (يرتبط بالبيئة الفريدة والقدرة الاستيعابية التي يتمتع بها المجتمع المصري). ولا يوافق الباحث على النقد الآخر الذي وُجّه لذاك القانون أيضاً، وهو أنه رجع إلى أكثر من عشرين قانوناً مدنياً يستحيل التنسيقُ والتلاؤُمُ بينها. وفي هذا الصدد يرى الكاتب أنّ السنهوري ما كان ناقلاً أو مؤلِّفاً وحسْب؛ بل كان مفكّراً وعالماً اجتماعياً بالإضافة إلى كونه صائغاً قانونياً بارزاً.
في الفصل الأول الذي يحمل عنوان: القانون بوصفه علاجاً أو إصلاحاً؛ يعنْونُ المؤلّف بعناوين داخلية عديدة في الفصل؛ منها: مصر مريضة (أخذاً من عنوان مقالةٍ لطه حسين من العام 1947م). وهذا يعكس وجهة نظر السنهوري في وجهٍ من وجوه وظائف القانون الجديد. فبين عامي 1915و1918م انخفض سعر القطن المصري من 18 جنيه للقنطار إلى 6 جنيهات، وبين عامي 1900 و1952م ارتفع عدد سكان البلاد من 10 ملايين نسمة إلى 22 مليون؛ وهكذا فقد زاد عدد السكان بنسبة 67% بينما لم تزد المساحة المزروعة أكثر من 20%. وقد استعرض المؤلّف الحالة السيئة التي آلت إليها أوضاع الناس من سائر النواحي عشية الحرب العالمية الثانية، وكيف أنها كانت السبب الرئيس لتفجُّر ثورة 1952م.
وتحمل الفقرة الثانية من الفصل الأول عنوان: الحاجة إلى التنقيح القانوني، والتي استندت إلى الوعي الليبرالي المستمر لحوالي القرن من الزمان، والذي طمح إلى تغيير داخلي في مواجهة التحدي الأوروبي.
والفقرة الثالثة تحمل عنوان: بعث الشرق، وقد عنى بالنسبة للسنهوري ومُجايليه نهوضاً مستمراً وقوياً للصمود في وجه التحدي، وسدّ الثغرات استناداً إلى الخصائص الشرقية والإسلامية العريقة. وقد كان ذلك وجهاً من وجوه الدفاع عن الأصالة وملاءمتها مع الحداثة.
وتحمل الفقرة الرابعة عنوان: عبد الرزاق السنهوري: شخصية ثنائية. فهو متجذرٌ في الوطنية المصرية والإسلامية (كانت أُطروحته للدكتوراه عام 1926م عن الخلافة الإسلامية، وضرورة تحويلها إلى عُصْبة أُمَم شرقية ـ تُشبه ما حصل فيما بعد في منظمة المؤتمر الإسلامي)، وواسع المعارف الحديثة القانونية والثقافية، وهو قانونيٌّ وذو وعيٍ سياسيٍ رفيع، وملتزم اجتماعياً.
وتحمل الفقرة الخامسة عنوان: الشريعة الإسلامية، نموذج من الهندسة القانونية. وفيها يتعرض المؤلّف لأفكار السنهوري في المزج بين الفقه والقانون الحديث. وقد كانت تلك فكرته منذ كتب أُطروحته في الخلافة والتي صدرت عام 1926م. فهو أراد أن تكون الشريعة هي الأساس الوطيد للقانون بعد عملية تكييفٍ علميٍ وموضوعي.
وفي فقرة الخلافة (السادسة) يشير المؤلّف إلى اهتمام السنهوري بإيجاد بدائل للخلافة يحتاج إليها التضامُنُ الإسلامي، وتحتاج إليها المرجعيةُ القانونية أو الدستورية. وبالإضافة إلى (تاريخية) الخلافة، اهتمّ السنهوري بالإجماع باعتباره المصدر الثالث في التشريع، وهو يعني مشاركة علماء الأمة في صوغ حياتها التشريعية والسياسية. وقد قسّم السنهوري الشريعة إلى عقائد وطقوس، ومسائل قانونية. وفي المجال الثاني رأى ضرورة فتح أبواب الاجتهاد المستقلّ. وفي العنوان الخامس: التقنين المدني المصري الجديد، مراحل التشريع: درس المؤلّف منهج السنهوري في الصياغة القانونية، وتاريخ صياغة القانون المدني المصري واللجان المختلفة التي تشكّلت بدءًا بالعام 1936م تاريخ إلغاء المحاكم المختلطة.
وجاء الفصل الثاني من الكتاب بعنوان: (الهندسة البنيوية للقانون المدني ـ البوابة إلى الأسرار الخلفية)، وهو يتكون من الفقرات التالية: القانون الاجتماعي ونماذج الهندسة الاجتماعية ـ ويتبين من المذكرات الإيضاحية والتفسيرية التي كتبها السنهوري للقانون أنه استند إلى فهمٍ واسعٍ للمجتمع المصري وأحواله واحتياجاته. وفي الفقرة الثانية بعنوان: التفسير الغائي وأثره في القانون المدني المصري الجديد. وفي هذه الفقرة تأمّل المؤلّف غائيات القانون المدني الفرنسي بعد الثورة والقائمة على صون حقوق الفرد؛ أمّا السنهوري فقد سعى للتوفيق بين الأمرين: حقوق الأفراد، وحقوق الجماعة. ويتبينُ ذلك في الفقرة الثالثة بعنوان: الانتقاء وتكييف المفهوم الديني في الاستعمال القانوني المدني، حيث درس الكاتب المذاهب المتعددة في التدوين القانوني، وهل تُعطى الحرية للقاضي كما في الفقه الإسلامي، والقانون العام البريطاني، أم يجري الالتزام بنصٍ قانونيٍ تفصيلي؟ والأمر الآخر أنّ حركة الإصالح الإسلامي بمدرسة محمد عبده (1849- 1905م) كانت ترى أنّ الحداثة لا تتناقض مع روح الشريعة الإسلامية. وعلى ذلك فإنّ السنهوري ـ بحسب الكاتب ـ استعار مصطلحات فقهية إسلامية وملأها بمضامين قانونية حديثة دون أن يرى تناقُضاًً في ذلك ما دامت تخدم المصالح الفردية والعامة. وفي نظر السنهوري فإنّ النظام الفقهي الإسلامي لا يقلُّ شأناً وتطوراً عن الأنظمة القانونية التي شكّلت الغرب من الروماني إلى اللاتيني والقانون العام الإنجليزي. وهذا اقتنع به السنهوري بعد حضوره مؤتمر القانون المقارن بلاهاي عام 1932م، والذي نظر إلى الفقه الإسلامي باحترام كبير. ومن هنا فقد جاء حرصُهُ على الأمرين: أن تبقى الشريعةُ حاضرةً وقوية، وأن تجري الإفادة من الحداثة الأوروبية في التأويل والملاءمة. وهناك جدالٌ طويلٌ يذكره الباحث بشأن الأهمية الفعلية للفقه الإسلامي في الصياغة النهائية للقانون المدني المصري.
وجاء الفصل الثالث بعنوان: الوظيفة الاجتماعية لقانون المِلْكية. وهو يمضي فيه إلى التفاصيل، ويدرس أفكار السنهوري الكامنة وراء صياغته، وهي تأتي تحت عناوين: التماسُك الاجتماعي، إذ تحدث السنهوري في نصّ القانون عن (الوظيفة الاجتماعية للملكية)، ولذلك آثارٌ واضحةٌ في بنود القانون الكثيرة. والأمر الآخر: العلوّ والانخفاض بوصفهما تعبيراً مجازياً عن المجتمع المصري الجديد، وضرورة تضامُن أعضائه (نموذج البناء ذي الطبقات المتعددة). والأمر الثالث: التطور الخطّي لمفهوم الوظيفة الاجتماعية، وهو يعني مراعاة المتغيرات الاجتماعية والسياسية والإبقاء على المرونة في الفهم والتعديل. وعلى هذا النحو مضى الكاتب في سائر فقرات هذا الفصل إيضاحاً للأبعاد الاجتماعية في القانون المدني المصري بحسب السنهوري، والتي شرحها فيما بعد في المجلد الثامن من (الوسيط) الصادر عام 1967م.
وفي أهمية الفصل المتعلق بالملكية أتى الفصل الرابع الذي يدرس فلسفة قانون العقود، واستناده إلى فكرة العدالة التعاقُديّة. ويوضّح الكاتب أنّ مبدأ العدالة التعاقُدية حلَّ لدى السنهوري محلَّ (حرية العقد) الذي ظلّ سائداً في القانون المدني النابليوني رغم التعديلات منذ العام 1804م. فبحسب ذاك القانون هناك كراهيةٌ شديدةٌ للتدخل في حرية التعاقد بين الأفراد والهيئات. ويهدف مبدأ العدالة إلى حماية (الطرف الضعيف)، وإلى إحداث (توازُنٍ مُلائم)، وإلى إحداث تلاقُح أو مزج بين العدالة الفردية والعدالة الجماعية، وإلى عدم العبودية للنصّ وإعطاء سلطة تقديرية للقاضي لصالح عدالةٍ ومساواةٍ أكبر. ويظهر ذلك في مبدأ (مَنْع التعسُّف في استعمال الحقّ). وقد أفاد السنهوري هنا من القواعد الفقهية الواردة في مجلة الأحكام العدلية العثمانية وبخاصةٍ المادة رقم 26. ثم القاعدة الأخرى الورادة بالمجلة أنه لا يُنكرَ تغيُّر الأحكام بتغيُّر الزمان. وهنا يُدخل السنهوري في مذكرته الإيضاحية لمجلس الشيوخ المصري بين المسوِّغات: مبدأ الضرورة، الوارد في الفقه الإسلامي.
وفي الفصل الخامس تحدث المؤلّف عن (سلطان التقدم) أي تأثير المتغيرات الحديثة في المجتمع المصري في صياغات القانون الجديد. ومن مظاهر عمليات التقدم وضروراتها اللجوء إلى التخيُّر أو الانتقاء في القانون، والعمل على فتح باب الاجتهاد في قضايا الشريعة القانونية. وقد ضرب المؤلّف مَثَلاً على ذلك بأفكار السنهوري بشأن الوقْف، والذي يعني: حَبْس العين، وتسبيل المنفعة. وعلى سبيل المثال ففي العام 1942م كانت الأراضي الزراعية الموقوفة وقفاً خيرياً أو أهلياً تبلغ سبعمائة ألف فدّان. وكان محمد علي علّوبة قد دعا إلى إلغاء الوقف الأهلي على الخصوص لإضراره بالمصالح العامة للأمة، وليس له طابع ديني. وقد كان رأي السنهوري التخلص التدريجي من الأوقاف الأهلية، وجَعْل الأوقاف الخيرية مؤقتةً أو مؤبَّدة. أمّا ثورة يوليو فقد ألْغت الأوقاف الأهلية، وأممت الأوقاف الخيرية. والأمْرُ نفسُه يسْري على مبدأ الشُفْعة، والذي أيّد السنهروي إلْغاءه، بعد أن كانت مجلة الأحكام العدلية العثمانية قد قيَّدتْه.
ويتابع المؤلّف في الفصل السادس تأثيرات التحدي الثقافي في تفكير السنهوري وبالتالي في القانون المدني؛ وهو بعنوان: (نحو أسلوبٍ معيشيٍ جديد: المرونة القانونية لتحقيق صالح المجتمع). أما الفصل السابع والأخير فهو بعنوان: أهون الشرَّين، وهو يحتوي على ثلاث فقرات: أوجُهُ أُخرى للبرلمان المصري، والاستقرار الديناميكي، ورؤية مختلفة.
إنّ كتاب غاي بيكور دراسة جادّة تعْرَضُ فيه إلى نواحي متعددة، وتتعلق كلُّها بحاضر الاجتماع العربي ومستقبله، وبالدولة وحكم العدالة والقانون في البلاد العربية.
****************
*) مراجعة لأطروحة Guy Bechor, The Sanhuri Code and the Emergence of Modern Arab Civil Law 1932- 1949, Brill 2007.

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا