Monday, October 15, 2012

دراسة: واجب تحفظ القضاة على ضوء الدستور الجديد (2/2)


النظام القانوني ساعد بدوره على تكريس هذا المفهوم الإنطوائي لواجب التحفظ

كان من الطبيعي إحاطة وظيفة القضاء بمجموعة من القيم والأعراف الضابطة لسلوك العامل داخلها، ضمانا لرفعة وسمو الهدف المتوخى من هذه الوظيفة، ولعل من بين أهم هذه الضوابط والقيم، نجد «واجب التحفظ» الذي أقره الدستور المغربي الجديد من خلال المادة 111 التي نصت على أنه : ( للقضاة الحق في التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية) وأنه : (يمكن للقضاة الانخراط في جمعيات، أو إنشاء جمعيات مهنية، مع احترام واجبات التجرد واستقلال القضاء، وطبقا للشروط المنصوص عليها في القانون) وأنه : (يمنع على القضاة الانخراط في الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية)

من خلال كل ما سبق يمكن القول إن جميع المواثيق الدولية الحقوقية التي تطرقت إلى حق القضاة في التعبير قرنت ممارسة هذا الحق ببعض القيود، وهذه القيود هي ما يمكن أن يطلق عليها واجب التحفظ، وسوف نعمل على تحديد هذه الضوابط من خلال الخوض في مدى التوافق أو التعارض ما بين واجب التحفظ وحق القضاة في التعبير والانفتاح على المجتمع والاحتجاج.
خامسا : واجب التحفظ وحق القضاة في حرية التعبير
انطلاقا من مقتضيات المادة 111 من الدستور التي أقرت بحق القضاة في التعبير دون الإخلال بواجب التحفظ، وانطلاقا من المواثيق الحقوقية الكونية التي سبق بسطها، يمكن القول كقاعدة عامة، إن واجب التحفظ في علاقته بحرية التعبير لا يخرج عن معنى: (ممارسة القاضي لحقه في التعبير بشكل لا يؤثر على حياده واستقلاله ورفعة المهمة التي أسندت إليه)، وقد حددت المواثيق الحقوقية الكونية السالف ذكرها، صورا للالتزامات التي يفرضها واجب التحفظ،   وذلك حين اعتبرت أن واجب التحفظ يفرض على القاضي ما يلي:
عدم الخوض في القرارات القضائية بشكل ينال مصداقيتها
فإذا كان من حق القاضي التعبير بكل حرية فإن ذلك يجب أن يكون مع احترام واجب التحفظ الذي يفرض عليه عدم الخوض في قرارات السلطة القضائية بالشكل الذي يجهز على مصداقية هذه القرارات، فقد جاء في المبدأ 7/3 من مبادئ مجلس بيرغ بشأن استقلال السلطة القضائية ما يلي : ( يتعين على القضاة أن يكونوا متحفظين في التعليق على الأحكام أو على مسودة الحكم، أو أي مشاريع أو مقترحات أو موضوع متنازع عليه من المحتمل أن ينظر أمام محكمتهم خارج النطاق القضائي أو المحاكم الأخرى)، إلا أن ذلك لا يعني عدم الخوض في القرارات القضائية عن طريق التعليق وفق المناهج العلمية للتعليق على القرارات القضائية، والتي تنطلق أساسا من دراسة الإشكاليات القانونية للقرار القضائي لا تقييمه من حيث العدالة أو غيره.
2 - عدم إبداء تعليقات حول قضايا قيد النظر وعدم إفشاء السر المهني:
يحق للقضاة التعبير بكل حرية، لكن دون الإخلال بواجب التحفظ الذي يمنع عليهم إفشاء سرية المداولات أو إبداء تعليقات بخصوص القضايا المعروضة على المحاكم، أو توضيح الاتجاه الشخصي أثناء المداولات... فقد جاء في المبدأ 7/2 من مبادئ بيرغ ما يلي : ( يحظر على القضاة إفشاء أسرار المداولات وإبداء أي تعليقات حول الدعاوى قيد النظر).
3 - عدم المجاهرة بأي برأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضين حول تجرد وحياد القاضي:
فإذا كان من حق القاضي أن يعبر بكل حرية عن أفكاره، فإن واجب التحفظ يفرض عليه عدم المجاهرة بأي رأي من شأنه زرع الشك لدى المتقاضين حول تجرده وحياده، ومن ذلك عدم المجاهرة بالميل لأي توجه سياسي أو عرقي أو عقائدي، لما في ذلك من زرع للشك لدى المتقاضين حول تجرد القاضي وحياده، فقد جاء في  البند 4/6 من مبادئ بنغالور ما يلي:( يحق للقاضي كأي مواطن آخر حرية التعبير و... ولكن يتعين عليه دائما عند ممارسته تلك الحقوق أن يتصرف بشكل يحافظ فيه على هيبة المنصب القضائي وحياد السلطة القضائية واستقلالها).
إذن فواجب التحفظ لا يعني بأي حال من الأحوال مصادرة حق القضاة في التعبير، وإنما هو واجب يروم أساسا تحقيق غاية أساسية، وهي الحفاظ على حياد وتجرد القاضي واستقلاليته بالشكل الذي يحفظ مكانة وهيبة القضاء.
سادسا : واجب التحفظ وحق القضاة في الإنفتاح على المجتمع :
  هل يتعارض واجب التحفظ مع حق القضاة في الإنفتاح على المجتمع؟
عرف مفهوم التحفظ في علاقته مع حق القضاة في الانفتاح على المجتمع تطورا عبر مرحلتين، فدل في مرحلة أولى على معنى الانطواء التام والعزلة، في مؤشر واضح على تعارضه مع حق القضاة في الانفتاح على المجتمع، ثم بعد ذلك انتقل هذا المفهوم من معنى الانطواء والعزلة إلى معنى الانفتاح على المجتمع، وفق ضوابط محددة.
إذن فالقاعدة المكرسة سابقا حول مفهوم واجب التحفظ كانت تختزل في عبارة واحدة وهي أن: (القاضي جلسة و لبسة وعبسة)، فهذه العبارة اختزلت المقصود بواجب التحفظ في ما مضى، فجعلت من التحفظ آلية للإنطواء التام للقاضي، وعزلته عن المجتمع، الأمر الذي أدى بشكل أو بآخر إلى تبلور تصور سلبي للمواطن حول القاضي، إذ أصبح القاضي حسب منظور المواطن، ذك الشخص الذي يعتلي برجه العاجي باستعلاء، ويسير أسطولا من السيارات، وحساباته البنكية لا تعد الأموال بها ولا تحصى...، هذا المنظور الذي كرس واجب التحفظ كواجب يفرض على القاضي الانطواء وعدم الانفتاح على المجتمع، ساهم بطريقة غير مباشرة في زعزعة ثقة المواطن في قضائه نتيجة لعدم الانفتاح وغياب الصورة الحقيقة للقضاء المغربي عن ذهن المواطن.
وأمام سوء التفسير لواجب التحفظ في علاقته مع حق القضاة في الانفتاح على المجتمع، كان من اللازم تجاوز هذا المنظور من خلال التكريس لمرحلة جديدة يمكن تسميتها «مرحلة الإنفتاح لكسب الثقة دون الإخلال بواجب التحفظ»، وهذا هو النهج الذي سلكه نادي قضاة المغرب الذي عمل على إيجاد آليات للإنفتاح والتواصل المباشر مع باقي أفراد المجتمع دون الإخلال بضوابط واجب التحفظ، فكانت صفحة التواصل الإجتماعي لنادي قضاة المغرب على الفايس بوك أداة فعالة لتحقيق هذا الانفتاح والتواصل مع المواطن، إذ ساهم بشكل كبير في توضيح الرؤية حول واقع القضاة في المغرب، بعيدا عن ذلك القالب الشكلي الذي كان يفرض على القاضي الإنطواء داخله، فكسرت بالتبعية وبشكل تدريجي، تلك النظرة السلبية للمواطن عن قضاة بلده.
لقد أسس نادي قضاة المغرب بذلك لقاعدة أساسية، مؤداها أنه (يجب على القاضي الانخراط في المشروع المجتمعي الحداثي الذي اختاره أفراد المجتمع المغربي، وعدم التقيد بالقواعد الموروثة التي تجعل من القاضي صنما موضوعا في برج عال تنطبق عليه مقولة (القاضي جلسة ولبسة وعبسة)، وللأسف فالنظام القانوني ساعد بدوره على تكريس هذا المفهوم الإنطوائي لواجب التحفظ، ويكفي الرجوع فقط لمقتضيات المواد 13 إلى 15 من النظام الأساسي لرجال القضاء للوقوف عند هذه الحقيقة، لدرجة أنه كان يمنع على القاضي حتى النشر ما لم يحصل على ترخيص من وزير العدل.

بقلم:  ياسين العمراني, عضو المجلس الوطني لنادي قضاة المغرب

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا