Monday, October 15, 2012

التنمية المستديمة للدول الإسلامية المبادئ والآفاق


                                              التنمية المستديمة للدول الإسلامية
                                                         المبادئ والآفاق

                                                     الدكتور عبد الله العوينة
                                                        كلية الآداب ـ الرباط
                                               
        تهدد النظام السسيو ـ اقتصادي اختلالات خطيرة في مجالات الإنتاجية وتوزيع الثروات والخدمات. ذلك بأن نسبة كبيرة من سكان العالم، ومنها أغلبية الدول الإسلامية، تعيش حالة من الفقر؛ إذ في عدد كبير من هذه الدول تتسع الهوة التي تحول دون استفادة فئة مجتمعية واسعة من الموارد الموجودة والخدمات الطبية وغيرها. كما أن من شأنها أن تهدد استقرار محيط الإنسان وبيئته العامة.
        وتعزى المشاكل التنموية لهذه الدول إلى عدة أسباب:
        فهناك المشاكل المرتبطة عامة بالعوز والفقر والتخلف والاستغلال المفرط للموارد الطبيعية من أجل سد حاجيات الساكنة من طاقة وغذاء. ويتجلى حل هذه المشاكل في معالجة شاملة تعنى بتحسين مستوى المعيشة والتربية وتشجيع الترقية الاجتماعية.
        وهناك المشاكل المرتبطة باختلال الإنتاج وبالنمط الاستهلاكي الحالي وسوء استغلال المساحات والموارد المتوافرة. ومرد هذه الصعوبات إلى النموذج الاستهلاكي السائد الذي لا يكترث للكلفة البيئية التي يتطلبها الإنتاج.
        كما أن امِّحاء مؤسسات المراقبة التقليدية قد أحدث أضراراً حقيقية، إذ لم تُسْـتَبْدَلْ بها مؤسساتٌ حديثة تستمد فاعليتها من إشراك المواطنين والجمعيات في اتخاذ القرارات المتعلقة باستغلال الموارد والتهيئة الإقليمية.
        وإن عدم التحكم في التقنيات وضعف التجهيزات الاجتماعية والصحية لمن الأسباب التي ألحقت الضرر بصحة الإنسان وراحته.
        كما يمكن تفسير التدهور البيئي بالإحساس بعدم الانتساب إلى وسط من الأوساط أو مورد من الموارد. ومن ذلك تصرف بعض المهاجرين القرويين داخل الأحياء التي يقطنونها، وخاصة منها تلك التي تجسد موروثاً حقيقياً كالمدن العتيقة.
        وقد كان للاستعمار دور سلبي مزدوج، إذ نهب الكثير من خيرات البلدان المسلمة والتي لا شك في أنها كانت ستعزز جهود التنمية في هذه البلدان؛ كما أن غزو قيم جديدة لهذه المناطق واختلاطها بالقيم المستوحاة من الثقافة الإسلامية لهذه الأقطار جعل هذه الأخيرة تعيش تناقضات واختلالات انعكست سلباً على الحياة العصرية لمجتمعاتها وظهرت في شكل لا مبالاة وعدم اكتراث بالتهديدات التي تمثلها مشاكل التلوث والتبذير وتدهور الموارد. وأخيراً، ترجع بعض هذه المشاكل إلى مجرد قصور إعلامي وانعدام حملات توعية فعالة.
        فالبيئة إذاً إشكالية مركبة تمس مجالات التربية والتنمية والإعلام في الوقت نفسه. ولعل هذه المشاكل تستدعي لحلها إعادة النظر في النصوص التشريعية الجاري بها العمل وكذا تحسين طرق التدبير وتطوير المؤسسات المعنية. وبعبارة أخرى، يتعين بذل المزيد من الجهود من أجل تحقيق نمو متوازن لا تشوبه تلك الفوارق التي غالباً ما تكون سبباً في التوترات الاجتماعية والأضرار البيئية.    

1)  الأوضاع العامة: إشكالية التنمية المستديمة والعولمة
        تعرف التحولات العالمية تسارعاً مطرداً. إلا أن التقدم الثقافي والخيارات السياسية الرامية إلى المحافظة على البيئة والمجتمع عاملان غير كافيين، بالرغم من أهميتهما، لتقليص الهوة الاجتماعية الناجمة عن النمو الديمغرافي وانتشار ظاهرة الفقر.
        وعليه، فإن مسلسل العولمة الذي يؤسس نظرياً لتنمية اجتماعية واقتصادية لم يوجه بعد للقضاء على الاختلالات التي تقسم العالم. وبذا تحول التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية دون تصور مستقبل مستديم للعالم والمجتمع الإنساني.
        ففي الدول النامية، يؤدي الفقر والانفجار الديمغرافي إلى استنزاف متزايد للموارد الطبيعية، وتبقى الحلول المقترحة للحد من هذا الاستعمال المفرط ضعيفة المفعول. فثلث سكان العالم يعتمدون في عيشهم على الاستغلال المباشر للموارد الطبيعية. ويساهم تقلص هذه الأخيرة في انخفاض مستوى عيشهم ويبخر آمالهم في التطلع إلى تنمية حقيقية. وفي هذه البلدان، يتولد عن حركة التمدين العشوائي والتصنيع مستويات تلوث مرتفعة، مما يؤثر سلباً في المحيط المباشر للسكان وفي مستوى عيشهم وصحتهم. ووضعية الفقر لا تسمح بالتغلب على العوامل التي تؤثر في حياة السكان وتجعلها تعج بالاعتلالات الصحية.
        وبينما ينمو الناتج الداخلي الخام العالمي باطراد ومعه حاجيات الإنسان من غذاء وماء وطاقة، تتعاظم الفوارق الاقتصادية وتتفاقم معضلة المجاعة التي تتسبب في العديد من الوفيات في مناطق معينة من العالم. ومن المنتظر أن يزداد الضغط البيئي، نظراً للتحولات العالمية وتلوث البيئة المباشر، خاصة في البلدان الفقيرة.
        ومع ذلك، فإن اتخاذ بعض التدابير السياسية قد يساهم في تصحيح هذه التوجهات، وذلك عن طريق التأثير في الأنماط الاستهلاكية والنماذج التنموية. ذلك بأن من شأن القيم الإنسانية المرتبطة بالأخلاق المتعارف عليها عالمياً، وخاصة تلك التي يدعو إليها الإسلام، أن تنظم السلوكات الفردية والتوجهات المجتمعية الحالية.
        لقد فرضت العولمة وجودها على الجميع بشكل يستدعي معه البحث عن النقاط الإيجابية لهذه الظاهرة العالمية واستغلالها في خدمة النمو الإنساني. ولهذا يتوجب إيجاد الطرق الكفيلة للتحكم فيها من أجل الإسهام في بناء صرح الحضارة الإنسانية باستلهام الأصالة والهوية الإسْلاَميَّتَيْن. ومثل هذا الطموح يفترض في أنظمتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أن تكون قادرة على المنافسة وأن تبذل مجهوداً متواصلاً من أجل تحقيق التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فالإصلاحات التي تصب في اتجاه النهوض بالمجتمعات الإسلامية كفيلة بتجاوز حالة التخلف وتحقيق التقدم.
        ويفترض هذا المطلب:

                 تفعيل العمل الإسلامي على جميع المستويات، وذلك بغية التضامن الإسلامي وجعله بمثابة المحور الذي يدور حوله التعاون بين أعضاء المجتمع المسلم في كل المجالات. والغاية من ذلك هي وضع أسس التنمية الشاملة والرفع من مستوى العيش عن طريق استتباب العدالة ومحاربة الفقر والجهل والقضاء على الأمراض ونشر الروح الوطنية ([1]).

        وإذا رجعنا إلى التراث الإسلامي، وجدنا أن المبدأ القائل إن التنمية أساسها الإنسان وعمله وذكاؤه هو من المبادئ الرئيسة في الفكر الإسلامي.

2)  الأسس والمبادئ الإسلامية
        إن تعاليم الدين الإسلامي أخذت في الحسبان هذه الإشكاليات المعقدة المتعلقة بالتنمية. فالمبادئ الإسلامية تستند إلى رؤية شمولية وعميقة تفرض على الإنسان أن يتعامل مع بيئته على أنها ملك مشترك يجب المحافظة عليه لضمان استمرار هذا العالم والإنسان الذي يعيش فوق هذه الأرض([2]).
        وحسب هذه التعاليم، يجب على الإنسان أن يعيش في انسجام مع نظامه البيئي الذي يعتبر مورداً لا يمكن الاستغناء عنه وأن يستغل كل الموارد الطبيعية؛ كما يجب عليه أن يتفكر في اختلاف المخلوقات وتنوعها، وذلك أساس الإيمان بالله وبقدرته الخلاقة.
        لقد جاء الدين الإسلامي بنظام عادل ومتوازن يحث الإنسان على تنظيم حياته الاجتماعية وفق الأسس الأخلاقية التي يقتضيها الكتاب، وخاصة منها مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يمكن بلوغ هذه الغاية إلا بفضل تظافر المجهود الجماعي والتعاون المتبادل في سبيل المصلحة الجماعية.
        لقد خلق الله تعالى هذا العالم لخدمة الإنسان من منظور احترام حياة كل الكائنات الحية. كما كرم الله الإنسان، إذ حباه سبحانه وتعالى القدرة على الابتكار والإبداع لكي يعرف كيف يواجه المصاعب التي تعترض طريقه (كالعراقيل الطبيعية) ويستشرف مستقبله بالاعتماد على التخطيط وعلى رؤية تتسم ببعد النظر.
        والمسلم المؤمن هو الذي يعي انتماءَه إلى الجماعة ويعرف أن مصيره مرتبط بها. ومن ثمة تكتسي المسؤولية طابعاً جماعياً، مما يحث الفرد على تحسين سلوكه والعمل بمعية الآخرين من أجل الدفع بهذا المجهود نحو الاتجاه الصحيح. ومن هذا المنظور، يتوجب على كل فرد أن يفكر وأن يفعِّل العقل من أجل تطوير بيئته الاجتماعية والطبيعية([3]).
        لقد خلق الله سبحانه وتعالى كل شيء بمقاييس دقيقة. وهذه المقاييس الإلهيَّة هي وحدها القادرة على ضمان استمرار هذه الموارد وحسن تدبيرها لكي يؤدي كل عنصر دوره على أكمل وجه وبدقة متناهية. ما من شيء حي إلا ويدخل في الإطار الذي حدده له الخالق سبحانه لكي يؤدي دوراً يعلم الله وحده كنهه. إلا أن الإنسان مطالب بالبحث لفهم هذه السنن الكونية. فما من مخلوق خلق عبثاً ولو كان من الكائنات التي قد نعتقد لأول وهلة أنها تافهة أو مضرَّة.
        ولهذا، فكل اختلال يقع في هذا النظام الطبيعي المتكامل بفعل الإنسان سيؤثر حتماً في كل الأنظمة البيئية بسبب تلك التفاعلات التي غالباً ما يصعب توقعها. ولهذه الآثار وقع على البيئة وعلى كل الموارد التي يستغلها الإنسان وعلى إطار حياته، عامة وصحته وراحته خاصة.
        لقد حث الدين الإسلامي من خلال الكتاب والسنة على ضرورة حماية البيئة التي يعيش فيها الإنسان وتدبير موارده تدبيراً حسناً وإلحاق أقل الضرر بالنظم البيئية. وبذلك سيجنب الإنسان نفسه الآثار المباشرة وغير المباشرة التي تنجم عن الاختلالات التي قد يتسبب فيها، وذلك من أجل العيش في إطار صحي ملائم.
        ولهذا أيضاً يحث الإسلام على الطهارة اليومية ونظافة الأبدان والملابس والأماكن التي نعيش فيها. إذ يتوضأ المسلم عدة مرات في اليوم بالماء الطاهر قبل أن يؤدي فريضة الصلاة. وللوضوء أكثر من مغزى:
        ـ  لا يصح الوضوء إلا بماء نقي طيب غير ملوث نابع من بيئة خالية من الدنس. وتعد طهارة ماء الوضوء ضرورة تدل على أن الإسلام ينهى عن تلويث الماء بالنفايات الصلبة أو السائلة سواء كان ذلك بطريقة مباشرة، بإلقائها في الماء الذي نستعمله، أو بطريقة غير مباشرة، أي في المنبع الذي يمدنا بالماء الجاري أو المياه الجوفية. ونستنتج من ذلك أن الإسلام ينهى عن التلوث الذي يتسبب فيه الإنسان من خلال نشاطه سواء كان تلويثاً فردياً أو جماعياً (عبر قنوات صرف المياه). لقد أصبح تطهير المياه من النفايات السائلة ومراقبة الأماكن التي ترمى فيها النفايات الصلبة ضرورة لا محيد عنها إن نحن أردنا أن نحافظ على طهارة الماء الذي نتوضأ به.
        ـ  والوضوء عملية تطهيرية يقوم بها المسلم عدة مرات في اليوم. وبتنظيفه لجسمه وملبسه، فإنه يتفادى تلك الأمراض التي تنتشر في البيئة ومختلف الكائنات والعوامل البيئيَّة المضرة بالصحة.
        ولا تقبل الصلاة إلاّ في الأماكن النظيفة، وإن هذا يدل على أن الإسلام يأمر بتطهير المحيط الذي يعيش فيه الإنسان مع تجنب تراكم النفايات. وهذا ما ينم عن ممارسة تتسم بالتحضر والاحترام.
        وبشكل عام، يحث الدين الإسلامي على مبدإٍ من المبادئ الأساسية، ألا وهو ضرورة الوقاية قبل العلاج. ومعنى هذا أن على كل مسلم حماية بيئته وصحته من كل التأثيرات السلبية المباشرة منها وغير المباشرة. ومن هنا جاء مفهوم دراسة الآثار البيئية لكل مشروع قبل تنفيذه، لأن العلم أثبت صعوبة إصلاح التدهور بعد حدوثه، وبالعكس سهولة تجنبه قبل حدوثه.

3)  التحديات التي تواجه الدول الإسلامية
        ثمة وعي حقيقي في العالم الإسلامي بأهمية عامل البيئة؛ وإزاء هذا الوعي هناك أيضاً اعتراف بالعلاقة القائمة بين الصحة والمستوى الاجتماعي والبيئة. ويتضح ذلك بجلاء في التصريحات الوزارية وقرارات المؤتمرات.
        إن مبادئ التنمية المستديمة وحماية البيئة مبادئ أساسية نرثها عن الحضارة الإسلامية والتطور التاريخيّ للعالم الإسلامي. فالمناهج الاقتصادية والمواقف الثقافية المستوحاة من ديننا الحنيف وكذا تصرفاتنا سواء منها الاستهلاكيّة أو تلك التي تمس البيئة لها وقع إيجابي ملموس إذا ما نفذت فعلاً على أرض الواقع.
        غير أن القدر الأكبر من اهتمام بلدان المنطقة انصب على القطاع الإنتاجي، وليس على مستوى عيش السكان بها.
        ومن أجل تحقيق التنمية المستديمة، يتوجب على بلدان المنطقة أن تواجه بحزم جملة من التحديات الكبرى.
        أوَّل هذه التحديات وأهمها هو العامل الديموغرافي فنمو الساكنة بمعدل 2 % يجعل من الأمر أكبر تحد يواجه بلدان المنطقة، لأنه يحتم عليها تحقيق نسبة عالية من النمو الاقتصادي تمكنها من تلبية الاحتياجات في مجال التغذية والبنى الأساسية لتلبية المتطلبات الفلاحية والحضرية والحيلولة دون اتساع المجالات الحضرية بشكل عشوائي، إضافة إلى تطوير وسائل جمع الأزبال لتفادي انتشار الأوبئة([4]).
        وتشكل نسبة الفقر العالية بين ساكنة بلدان العالم الإسلامي تحدياً اجتماعياً كبيراً، لكونها تتسبب في العديد من مظاهر تردي الأوضاع البيئية بالمنطقة. كما أن المخاطر الصحية الناجمة عن تردي الأوضاع البيئية المذكورة تزداد حدة في المناطق المهمشة، وبالخصوص بين صفوف الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً. ولم تمكن المبادرات المنجزة لحد الآن في المنطقة، والهادفة إلى التقليص من مستوى الفقر، من تحقيق الكثير في هذا المجال بسبب ضعف جرأة برامج التشغيل ببلدان المنطقة، وذلك بالرغم من الخطاب السياسي في هذا المجال. كما أن نسب النمو الديموغرافي العالية بالمنطقة تلقي بالآلاف من طالبي العمل في سوق الشغل كل سنة، مع أن نسبة النمو الاقتصادي لا تسمح بتوفير فرص شغل للجميع. مما يؤدي إلى مظاهر تهميش تشمل حالياً حتى الشباب الحاصلين على شهادات عليا. وتسفر هذه الوضعية عن مآسي كبيرة؛ لأنه زيادة على عامل الفقر الناتج عن عدم الحصول على عمل، يتكون ثمة شعور نفسي بالإحباط يعرقل جميع جهود التنمية المرغوب في تحقيقها.
        ثم نجد تحدي العولمة الذي فرض نفسه على المنطقة في وقت ما زالت فيه أغلب بلدانها تتخبط في مشاكل إعداد اقتصادها لمواجهة متطلبات هذه العولمة من حيث تحسين تنافسيتها التكنولوجية وإصلاح مؤسساتها القضائية ومناهج حسن التدبير بها وضمان التسيير المحكم في كل مجالاتها. كما أن فرصَ التبادل التجاري الأفقي بين بلدان العالم الإسلامي ما زالت ضعيفة ولا تسمح بخلق مجالات تعاون داخلية بينها. ويتعين النهوض بمستوى هذا التعاون الإقليمي إذا ما أرادت بلدان المنطقة تحقيق مستويات عالية من تبادل الخبرات والمنتجات والمناهج التكنولوجية بحيث تتمكن من تعزيز قدرات كل بلد من بلدان المنطقة في خضم محيط اقتصادي يتسم باحتدام المنافسة مع التكتلات الإقليمية الأخرى.

4)  الأهداف الاستراتيجية من أجل تنمية مستديمة
        تتمثل أهداف استراتيجية بلدان العالم الإسلامي في مجال التنمية المتواصلة في ما يلي:
    ـ    وضع البلدان الإسلامية على درب تنمية فعلية. وذلك ما يستوجب تحقيق مستوى من النمو يمكنها من تجاوز الهوة الفاصلة بينها وبين البلدان المتقدمة؛ كما يستوجب تهيئ بلدان المناطق الإسلامية لأن تكون عناصر فاعلة لا غنى عنها في السّاحة الدولية بفضل الوعي الذي سيتكون لديها بمدى الإمكانات التي تمتلكها وقدرتها على تجنيد كل طاقاتها اعتماداً على تراثها ورصيدها المتمثل في قيمها الموحدة، ألا وهي وحدة التاريخ والمعتقد المتجسد في الدين الإسلامي الحنيف؛
    ـ    تطوير تكنولوجيات مبتكرة بالمناطق الإسلامية من شأنها توفير إنتاج كاف من حيث الكم والكيف ورفع التحديات البيئية التي تواجهها هذه المناطق؛
    ـ   اعتماد استراتيجية لحماية البيئة وتطبيق مبدإ الحيطة كلما تعلق الأمر بأخطار قد يكون لها انعكاس على تنمية هذه المناطق عموماً. ويستوجب ذلك عدم الاكتفاء بمعالجة المشاكل البيئية التي يمكن أن تنجم عن كل تصرف بيئي ضار. بل يستوجب ذلك بذل جهود متواصلة في مجال الأبحاث لتفادي الآثار السلبية المتوقعة بالاعتماد على الدراسات الاستشرافية المرتكزة على تحليلات دقيقة وتحريات ميدانية. ويستوجب ذلك في الأخير الاهتمام بالجانب الاجتماعي للتقليص من حدة الفوارق في مجتمعات البلدان المسلمة وتقويم حالات التهميش بفضل اعتماد مقارنة تشاركية تؤلف بين استراتيجيات الفاعلين المحليين وتعتمد على خبراتهم المكتسبة في إطار يولي كامل الأهمية للإنسان والمنظمات غير الحكومية([5]).

        4. 1.  المحور الاقتصادي
        يشكل النمو الاقتصادي قاعدة أساسية في استراتيجية التنمية المستديمة وفي العمل البيئي؛ كما أن تسريع وتيرة النمو الاقتصادي المذكور عبر تكثيف الاستثمارات هو السبيل لتلبية الاحتياجات المتزايدة للساكنة.
        ويوفر النمو الاقتصادي أيضاً الموارد المالية الكفيلة بالقضاء على الفقر وتمويل جهود حماية البيئة وكذا المبادرات الهادفة إلى إعادة توجيه الأنشطة قصد التقليل من التلوث، ثم جهود الإعداد المجالي والتعمير قصد الفصل بين المجالات الإنتاجية والمجالات السكنية وتلك المخصصة للأنشطة الترفيهية. كما تمكن هذه الموارد من إعداد مجالات العيش الملائمة.
        ويتطلب تحقيق النمو الاقتصادي السريع إدخال جملة من الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية، وبالخصوص بناء الثقة لدى المستثمرين وتوفير الأمن ووضع أسس دولة القانون والاعتناء أساساً بالموارد البشرية وتعزيز الطاقات المتوافرة والعدالة الاجتماعية واهتمام الدول بتلبية احتياجات ساكنتها.

        4. 2.  المحور الاجتماعي
        تعد التنمية الاجتماعية نتيجة للنمو الاقتصادي تنبني على تقليص البطالة وتعزيز القدرة الشرائية للمواطنين وشرطاً ضرورياً لاستمرار هذا النمو الاقتصادي على المدى البعيد، إذ إن النمو الاقتصادي لوحده ليس كفيلاً بالقضاء على الفقر، نظراً للحجم الهائل من المتطلبات الناجمة عن الضغط الديموغرافي والاحتياجات الإنسانية من جهة، وللفوارق الطبقية الكبيرة وحالات التهميش الاجتماعي من جهة أخرى.
        غير أن الفقر وتردي أوضاع المجتمع أمران متلازمان. لذلك يتعين وضع خطة عمل خاصة تتبنى مقاربة جديدة وآليات متطورة لمعالجة معضلة الفقر والتهميش. وقد أظهر نظام الدعم العمومي محدودية نتائجه، بل آثاره السلبية أيضاً. لذا يتعين على الطبقات الاجتماعية المحرومة أن تتولى الاهتمام بمشاكلها بشكل مباشر لمعالجة معضلة الفقر التي تحيق بها، وذلك بفضل تعزيز الوسائل المتاحة لديها في إطار تشاركي فعال.
        ولبلوغ هذا الهدف، يجب استيفاء شرط متمثل في النهوض بالسياسة السكانية وتوعية هذه الساكنة ورفع مستوى التواصل والتعليم. إذ إن تردي الأوضاع الاجتماعية ينتج في جزء منه عن كثرة الاحتياجات الملحة (من مياه وتغذية وسكن وصرف صحيين...) بفعل التزايد الديموغرافي، مما يتطلب تخصيص مزيد من الجهود والوسائل لمواجهة متطلبات هذا التزايد الديموغرافي. وقد أثبتت تجارب الحد من النسل وحدها فشلها في معالجة استفحال النمو الديموغرافي. ومن ثم، فإن التربية والتوعية هي السبيل الأمثل لتمكين السكان من أخذ زمام أمورهم بأنفسهم وتجنيد كل طاقاتهم لتحقيق التكافؤ بين متطلباتهم ومواردهم المتاحة.
        أما الشرط الثاني في مسار مكافحة الفقر، فيتمثل في الاعتناء بالعنصر البشري وتعزيز طاقاته، ولا سيما طاقات الأجيال الصاعدة. فضمان التربية الحسنة والناجعة عبر الإصلاح الجذري للأنظمة التعليمية الحالية يبقى السبيل الأفضل لتكوين الأطر القادرة على مواجهة المشاكل البيئية والاقتصادية والاجتماعية التي تعترضها.
        ويبقى إصلاح النظم المسيرة لمختلف أوجه الحياة في بلداننا الإسلامية رهيناً بالإرادة السياسية.

        4. 3.  المحور السياسي
        يتعلق الأمر بمجموعة من الخيارات السياسية الكفيلة بضمان شروط تحقيق تنمية مستديمة. وتهم هذه الخيارات بالأساس تبني إصلاحات سياسية وقانونية وإدارية يمكن اختزالها في إقامة نظام ملائم لحسن التدبير.
        فاعتماد نظام لا مركزي على الصعيد السياسي، إضافة إلى تطوير الأداة الديمقراطية يمكنان من تحسيس الفاعلين على جميع المستويات بأعباء المسؤولية، ومن إشراك كل المعنيين في مسار التنمية وحماية البيئة وتحسين مجال عيش المواطنين. كما أن فسح المجال أمام المجتمع المدني كي يأخذ زمام الأمور بيده يشكل سلطة مراقبة إضافية.
        إن تعزيز دور القطاع الخاص يخلق الظروف المناسبة لاقتصاد السوق والمنافسة ويساعد على نجاح المشاريع الخلاقة. أما الأنشطة المتطفلة على قطاع الاقتصاد، فإنها تجد نفسها مضطرة إلى الزَّوَال. وتضطلع الرقابة القضائية في هذا الإطار بدور المساعد للمجال الاقتصادي، بما أن مختلف معايير هذا المجال كفيلة بتوجيه الآليات الإنتاجية نحو تحقيق نتائج إيجابية وتشجيع قطاع الخدمات العمومية، المهتم بتوزيع الماء وتوفير الصرف الصحي ومعالجة النفايات، على تبني نظم عقلانية للتدبير. ويمكن للصحة العامة أن تتحسن في هذا الإطار بصفة تلقائية في سياق وجود تقنين قضائي واضح ومراقبة المجتمع المدني والمواطنين وكذا في إطار عمل سليم لآليات السوق في هذا المجال.
        إن دعم مجال البحث والتنمية يأتي مكملاً للجهود الرامية إلى تحقيق حسن التدبير في المجتمعات المسلمة، لأن أعمال البحث تقرب من معايير ونماذج وآليات تكنولوجية جديدة ومدارك تعمل التربية على مواكبتها وتعميمها. ويمكن ذلك من الرفع من درجة الوعي العام ومن تعزيز الشعور بالمسؤولية.
     
        4. 4.  محور البيئة وتدبير الموارد الطبيعية
        تعتبر الموارد الطبيعية والبيئية ثروة يجب استغلالها بشكل معقلن بدل اعتبارها حاجزاً أمام التنمية. ولقد ساعد خطاب المدافعين عن البيئة على الوعي بأن المواد البيئية إنما هي ثروة قابلة للنضوب وأن تدهورها يؤدي إلى الفقر الاقتصادي والبيئي على حد سواء.
        وفي هذا الصدد، يجب البحث عن قطاعات تحمل معها حركية تنموية جديدة، في إطار استغلال الرصيد الطبيعي والتنوع الحيوي، متلازمة مع احترام المواقع البيئية وحسن استغلالها، وذلك باعتماد طرق مختلفة كالسياحة البيئية وتشجيع المنتوجات البيولوجية الجيدة داخل مساحات محدودة تتميز بإنتاجيتها المرتفعة. كما يجب أن يشكل تدبير الموارد الطبيعية الأساس الذي تستند إليه التنمية عوض أن تكون حاجزاً أمامها.
     
خلاصة
        ما من شك في أن التنمية المستديمة تُعنى أولاً وقبل كل شيء بتطوير آليات الإنتاج وأساليب الإدارة وطرق تدبيرالشأن العام وتغيير السلوك الاجتماعي. إلا أن مفهوم الاستدامة يعني كذلك أن الأهداف المذكورة لابد من أن تتلازم مع إبراز قيمة الموروث الثقافي والبيئي وتنميته.
        لقد أضحت التنمية المبنية على الانفتاح النموذج المناسب الوحيد الذي يمكن اعتماده، نظراً لعدم ملاءمة النماذج الأخرى، بل لتعارضها مع الطبيعة الإنسانية. غير أن الانفتاح التجاري وحده من شأنه أن يؤدي إلى طريق مسدود إن لم يكن مدعوماً بالتعاون الدولي والإقليمي.
        وتعتبر الخصائص المحلية لكل منطقة ثروة يجب الحفاظ عليها. ومعنى ذلك أن العولمة يجب ألاَّ تفرض نماذج نمطية على العالم. فلا يمكن اختزال التنمية والحداثة في نموذج واحد فريد؛ فالبحث العلمي والابتكار التقني والإبداع الفكري أسس كفيلة بتحقيق التقدم. هذا هو السياق الذي يجب أن نبني فيه التنمية المستديمة على أسس ثقافتنا الإسلامية.
        وتعتبر الإرادة الجماعية والعزم القوي على ركوب قاطرة التنمية المستديمة مبدءاً أساسياً، بل مشروعاً مجتمعياً وليس خطاباً مستهلكاً فقط، مما يستدعي اعتماد استراتيجية واضحة وتدابير دقيقة تتجاوز التوجهات الحالية. ومن ذلك تطبيق التوصية الأساسية لخطة العمل 21 (الأجندة 21) التي تدعو إلى منح المزيد من المسؤوليات على مستوى الأقاليم والجماعات المحلية في الوقت الذي تؤدي فيه الدولة دور المنسق. وفي هذا الإطار، سيساهم الفاعلون المحليون بشكل أكثر فاعلية وستقوم بين الدولة والمنتخبين والمواطنين علاقات جديدة تسودها ثقافة التنمية المستديمة من خلال البرامج والأعمال.
        ويُعَدُّ تدبير الوضعية البيئية المتردية من أولويات الدول الإسلامية التي تجعل من بين أهدافها تغيير الأوضاع الحالية التي قد تسفر عن كوارث بيئية واقتصادية وصحية تؤدي بشكل عام إلى تردي ظروف العيش، مما يستدعي بعد النظر والتفكير في تحسين ظروف عيش الأجيال الحالية والقادمة.
        إلا أن الأهم في حالة الدول الإسلامية يظل قيامها بإصلاحات اقتصادية وقانونية واجتماعية تحفز الجميع على التجند لتحقيق الأهداف المرجوة؛ ويتعين في هذا الإطار أن تستنير بقيم الثقافة الإسلامية وتعاليمها.


([1])     التويجري، العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي، منشورات المنظمة الإسلامية إسيسكو، 2002.
([2])     عبد الله شحاتة، رؤية الدين الإسلامي في الحفاظ على البيئة، دار الشروق، 2001.
([3])     يوسف القرضاوي، رعاية البيئة في شريعة الإسلام، دار الشروق، 2001، 259 ص.
([4])     محمد عبد القادر الفقي، البيئة، مشاكلها وقضاياها وحمايتها من التلوث. رؤية إسلامية، مكتبة ابن سينا، القاهرة، 240 ص.
([5])     توقعات البيئة العالمية، 2000، برنامج الأمم المتحدة للبيئة، عالم الترجمة، المنامة، 398 ص.

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا