Tuesday, October 16, 2012

أحكام القضاء بين "ضرورة الاحترام" وخطورة "التبخيس والتسييس"


عبد الرزاق الجباري
غير المستساغ أن يخضع القضاء لرقابة إحدى السلطتين مادام جهازا مستقلا

غير أن جواب الوزير، جاء -إلى حد ما- شافيا للعليل وراويا للغليل، حين قال: «إني كوزير للعدل والحريات، ولو بصفتي نائب رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية مؤقتا، لا علاقة لي بهذا الموضوع، إذ لا سلطان لي على السادة القضاة، وأن استقلال القضاء يكاد يكون مبدءا مقدسا».
إلا أن اللافت في هذا الأمر، هو زيارة وزير العدل إلى المحكمة المذكورة دون سابق إعلام

، ومباشرة بعد سؤال المستشار أعلاه، حتى قال هذا الأخير منتشيا: «هذا هو المؤمل من وزير ينصت ويتجاوب بسرعة مع السلطة التشريعية، وأتمنى أن تنتهي مثل هذه الأحكام الظالمة، وأن تعود الأمور إلى طبيعتها»، مؤكدا أن هدفه من طرح السؤال هو: «إثارة الانتباه، في إطار مساءلة ومراقبة الجهاز التنفيذي إلى قضية غاية في الخطورة، ظلت ترتكب من قبل قاضيين كل اثنين وأربعاء، وهي القضية التي باتت تعرف بالأحكام الطويلة الأمد» (جريدة الصباح، يوم الجمعة 27 يوليوز)، معتبرا بذلك السلطة القضائية جزءا لا يتجزأ من الجهاز التنفيذي، في مخالفة صارخة لأولى أبجديات القانون الدستوري والفكر الديمقراطي الحداثي، الأمر الذي يطرح أكثر من علامات استفهام حول طبيعة السؤال من جهة، وهذه الزيارة ونطاق جدولتها من جهة أخرى.
ولعل ما يزيد الأمر استفهاما، هو ما تلا ذلك من تعليقات صحفية جعلت بين سؤال المستشار وتلك الزيارة علاقة السبب بالمسبب، الأمر الذي لم تلتفت إليه وزارة العدل، لا بالنفي ولا بالتأكيد، في بلاغها الصادر يوم 26-07-2012.
وبعيدا عن واقعة الزيارة وخلفياتها الحقيقية، يتوجب علينا أن نتساءل حول ما إذا كان من المستساغ دستورا وقانونا أن يُعَقَّب على أحكام القضاء –بغض النظر عن التعليقات ذات الطابع العلمي- الصادرة باسم جلالة الملك وطبقا للقانون، أم لا؟ ولئن كان المشرع المغربي قد حدد طرق الطعن القانونية التي يتعين اقتفاؤها لإلغاء الحكم القضائي أو تعديله، فإن ذلك لا يمتد قطعا إلى السلطة التقديرية للقضاة، والتي من أهمها  «سلطة تفريد العقاب» (الفصل 141 من القانون الجنائي)، ولو حتى من قبل أعلى هيأة قضائية وهي «محكمة النقض» (المادة 518 من قانون المسطرة الجنائية)، فبالأحرى وزير العدل أو السلطة التشريعية.
وغير خاف على ذي حس حقوقي في هذا الصدد، أن أي تعقيب على أحكام القضاء من لدن إحدى السلطتين، إنما هو، وبتعبير الدستور المغربي الجديد، محاولة «للتأثير على القضاء بكيفية غير مشروعة» (الفصل 109 من الدستور المغربي الجديد)، الأمر الذي ينبئ لا محالة باقتراب ساعة «الشرعية المؤسساتية»، نظرا لغياب يكاد يكون تاما لثقافة «احترام أحكام القضاء» الذي يترتَّب ضمن السلطتين الأخريين من الناحية الفلسفية، في المرتبة الثالثة وتسبقها على التوالي: السلطتان التشريعية والتنفيذية، إذ تتأدى حقيقة هذا الترتيب أساسا، فيما تتسم به سلطة القضاء من طابع رقابي لا غير ؛ فالسلطة التنفيذية، هي الجهة المسؤولة عن تسيير الشؤون العامة للدولة، بينما تتحدد وظيفة السلطة التشريعية في رقابة عمل السلطة الأولى، إما بصفة قبلية وذلك بوضع قوانين مؤطرة لعملها، وإما بصفة بعدية عن طريق مساءلتها في البرلمان، في حين، تتمثل وظيفة السلطة القضائية في ضبط ورقابة السلطتين معا. لذلك، فمن غير المستساغ أن يخضع القضاء لرقابة إحدى السلطتين مادام أنه جهاز مستقل وله قنواته الرقابية الخاصة به (الفصلان 107 و116 من الدستور الجديد).
ولعل ذلك، هو الأساس المادي الذي بُنِيت عليه فلسفة الفصل 126 من الدستور المغربي الجديد، الذي ورد فيه: «الأحكام النهائية الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع».
وحري بنا أن نستهدي في هذا المقام، ببعض وَمَضَات فصول الصراع بين السلطة القضائية بمصر ورئاسة الجمهورية، إذ دارت رحاها بالأساس حول مدى «احترام أحكام القضاء» –بغض النظر عن صوابها قانونا أم لا- كتجسيد لدولة القانون، وبين الدعوة إلى تبخيسها وعدم تنفيذها انتصارا لقرار رئاسي مناقض لها، الأمر الذي انتهى لصالح السلطة القضائية كتغليب لـ «الشرعية المؤسساتية» باعتبارها فوق السلط جميعها، وموجهة وضابطة لها. وترتيبا على كل ما سبق، يمكن تسجيل بعض الملاحظات المتسمة بغاية من الخطورة شكلا ومضمونا، وأهمها:
 تتعلق الأولى بالمستوى العلمي والمعرفي الذي يتربع على بعض –دون الجُلِّ- أفئدة من أوكلت لهم مسؤولية التشريع ببلادنا، إذ لا سبيل لوصفه مادام الواقع يشهد بترديه، إن لم نقل انعدامه بالمرة، سيما على صعيد المعرفة القانونية المفترضة فيهم كصناع للقانون.
 ما آل إليه وضع القضاء راهنا، إذ أصبح مطية لتصفية الحسابات بين بعض الفرقاء السياسيين، فضلا عن أنه أمسى مادة خصبة لمزايدات بعضهم على بعض، الأمر الذي يدعو إلى أكثر من وقفة تأمل، تفاديا لـما قد يفضي إليه ذلك من «تسييس» له، في الوقت الذي يتوجب على الجميع أن يجاهد للحيلولة دون ذلك، حفاظا على مصلحة الوطن والمواطن.
العناصر التكوينية لجريمة «محاولة التأثير على القضاء» في واقعة السؤال الشفاهي أعلاه، قائمة ولا لبس فيها (الفصل 109 من الدستور الجديد، و266 من القانون الجنائي)، الأمر الذي يعتبر امتحانا لوزير العدل بصفته –المؤقتة- رئيسا للنيابة العامة، والذي ما فتئ يواجه القضاة الذين اختاروا خوض أشكالهم التعبيرية للدفاع عن استقلالهم، بأن: «رفعة القضاء وسموه لا تتلاءما ألبتة معها». اللهم إذا كانت الرفعة المنشودة هي «قَصلُ» القضاء أمام مرأى ومسمع من العالم، ولا من رقيب أو حسيب؟
من يدعي قساوة القضاة، عليه أن لا يخطئ الوجهة، وهي تغيير نص القانون الذي يحدد العقوبات الواجب تطبيقها في حدين أدنى وأقصى، وهذا من صميم عمل المشرع وليس القاضي، أم أن لِمُدعي القساوة مصلحة في الملفات المدعى بشأنها، وبالتالي كان ادعاؤه «حمية» وليس «إصلاحا»؟ أم أن في ذلك مرامي أخرى؟ مثلا، من قبيل إبعاد أولئك القضاة «القاسية قلوبهم» -الذين يشهد لهم القاصي والداني بالاستقامة والنزاهة والكفاءة- عن المادة «الجنائية»، بدعوى الرأفة على المحكوم عليهم طبقا للقانون، دونما أي اعتبار لحق المجتمع الذي انتهكت حرماته، وقوضت مقوماته، وبات مهددا في تماسكه بتنامي ظاهرة الجريمة وتطورها، بل وعولمتها وتحديثها.
*عضو بجمعية نادي قضاة المغرب

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا