Monday, December 17, 2012

دراسة في القانون: آفاق مستقبل كتابة الضبط (2/2)


سوف لن أنتظر طويلا للاعتراف لكتابة الضبط بدورها الإستراتيجي داخل منظومة العدالة، ولربما أصبحنا نلمس اليوم وأكثر من أي وقت مضى الغاية النبيلة التي من أجلها أحدث هذا الجهاز إلى جانب المؤسسات القضائية ، فالقاضي الذي أسند إليه أمر الفصل بين المتقاضين، لا يمكن له وحده
 أن يقوم بجميع الإجراءات التي يتطلبها منه سير الدعوى، كما لا يمكن أن تترك له بالمقابل حرية مطلقة في تسيير الإجراءات.

إن نظرة شمولية لعمل مؤسسة كتابة الضبط بمصلحتيها، وبإجراء مقارنة ولو بسيطة بين مختلف الأقسام التي تتضمنها تؤكد أن مبدأ ازدواجية كتابة الضبط إنما ترك في العمل تكثيفا غير مبرر للمهمة الإجرائية، بإيجاد مكاتب ووسائل متكررة كان الأولى إقصاؤها أو على الأقل اختزالها. كما أن التمييز غير المنطقي بين مصلحتين تنتميان لمؤسسة واحدة نتج عنه بالأساس تغييب بعض الخصائص الهامة التي تميز تدخل كتابة الضبط كمؤسسة مستقلة ومسؤولة داخل المحكمة، ذلك لأن انتماء كتابة النيابة العامة لسلطة المتابعة وحرمانها من الاضطلاع بأي دور قضائي سجل في العمل هيمنة واضحة للجانب الإداري على تدخل هذه المصلحة، وهذا أمر يتنافى في نظرنا واقعا ومنطقا مع المبادئ الأساسية التي تحكم مؤسسة كتابة الضبط عموما .
  وهكذا في فرنسا، حسب البحث الذي أنجزناه سنة 1993، تظهر المهمة الإجرائية ملخصة في محطات أربع تجسد فعلا أهم مراحل الدعوى الجنائية: فمكتب الضبط يغطي مرحلة المتابعة بكاملها، ولم يتطلب ذلك سوى أربعة مكاتب فرعية. فنجد مثلا إلى جانب مكتب تسجيل المحاضر مكتبا خاصا بالبحث عن السوابق القضائية يساعد على معرفة الحالة الجنائية للمتهم بصورة مؤكدة.
وتنبه المشرع  الفرنسي إلى تخصيص هذا المكتب وتمييزه عن بقية المكاتب الفرعية المكونة لمكتب الضبط  نظرا للدور الهام الذي يضطلع به في أول مرحلة تعتمدها الدعوى الجنائية، أي مرحلة المتابعة، بل لقد ميز المشرع الفرنسي كذلك بالنسبة إلى عملية تسجيل المحاضر بين إنجازها والمتابعة الصادرة بشأنها، وخص كل واحدة منها بمكتب منفرد، حتى يقع التخلص من القضايا التي وقع حفظها، وينصب الاهتمام بالتالي على القضايا المثارة بشأنها المتابعة.
وبمرحلة تجهيز القضايا، لم ير المشرع المذكور فائدة جعل هذه العملية من اختصاص كل المكاتب حسب نوع الجريمة، بل نهج في ذلك طريقة حكيمة تميز بين إعداد الملفات والوثائق من جهة، وتعيين الجلسات من جهة أخرى، وهو تخصيص نرى له أكثر من فائدة، بحيث ترمز العملية الأولى إلى التركيز بالأساس على ملاحظة مدى تكامل وثائق الملف والمحافظة عليها من التلف، وهذه لوحدها تستوجب الإنفراد بمكتب خاص. بينما تؤكد العملية الثانية على أن مبدأ السرعة في المادة الجنائية واحترام الآجال المعقولة جعلا المشرع الفرنسي يصب اهتمامه كذلك وبشكل متواز مع العملية الأولى على تعيين الجلسات ، ولا تخفى الفائدة الكبرى المراد تحقيقها من خلال هذا التخصيص، والمشاكل الكثيرة التي يمكن تجاوزها بواسطته .
فيما يرجع لمرحلة المحاكمة، يخصص المشرع الفرنسي مكتبا يهتم بمسك محاضر الجلسات، وفي هذا أكبر دليل على أن هذه الوثائق الخطيرة يجب أن تسند لمكتب متخصص حتى تترسخ لدى المشرفين عليه الأهمية المصيرية التي تحوزها محاضر الجلسة، وحتى يتمكن المسؤلون بالمحكمة من اختيار كتاب الضبط من ذوي الكفاءة بهذا الإجراء .
  وفي المرحلة الأخيرة أي مرحلة التنفيذ، ركز المشرع على مسألتين هامتين: مسك البطائق وعملية التنفيذ في حد ذاتها، وخصهما بمكتبين مستقلين إيمانا منه بأن عملية مسك البطائق وتهييئها هي أيضا لها دورها الخاص في هذه المرحلة، إذ يجب تخصيصها وتمييزها عن التنفيذ كعملية مادية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمسك تلك البطائق، حيث ينبغي أن تبذل بشأنها أكبر عناية، وحتى لا يقع التنفيذ إلا على المعني بالأمر وفقا لما انتهى إليه منطوق هيأة الحكم .
 هذه المحطات الأربع التي تميز هيكلة كتابة الضبط مبدئيا في فرنسا إنما تؤكد على أن مستقبل هذه المؤسسة إنما يراهن على ما يحمله النظام الوحدوي من مزايا، لا تتجسد فقط في اختزال الوسائل المادية والبشرية وتركيزها فيما يصحح الدورة الإجرائية بتحقيق الربط الإيجابي بين مختلف حلقاتها، بل تكرس في العمق طبيعة العمل الجماعي الذي تؤمنه مؤسسة كتابة الضبط إلى جانب المؤسسة القضائية، وهو عمل إن كان في ظاهره ينبغي أن يجسد أهم القنوات التي يمر منها ملف الدعوى في المجال الجنائي من دون تكثيف مفتعل ، ففي بعده وفلسفته يسمح بالقول إن كتابة الضبط هي المؤتمن الأصيل على مختلف النوازل التي ترد على المحكمة. لذلك لا نتردد في التأكيد على الأهمية الحيوية التي يكتسيها موضوع الهيكلة، خصوصا تحديثها في إطار هذا الشكل، لأنه انعكاس صادق لمدى اعتراف المشرع لكتابة الضبط بهذا الدور المستقل والمسؤول، والذي شئنا أم أبينا يحمل خلفية إحداث جهاز يمنع من الاعتراف للقضاء بسلطة إنفراده بتسيير القضايا .
من كل ذلك نخلص إلى أنه في غياب اشتراط التكوين في المجال القانوني بالنسبة إلى كل موظفي كتابة الضبط والحرص على التمسك بضرورة الخضوع إلى تمرين ممنهج، بالإضافة إلى إعطاء مفهوم الهيكلة بعدا استراتيجيا لا يمكن بنظرنا المتواضع أن نتصور للمؤسسة المذكورة دورا واضحا إلى جانب المؤسسة القضائية، ولعلها الحقيقة الثابتة التي ينبغي استحضارها بقوة ونحن ماضون في الانخراط وبكل ثقة في ورش إصلاح القضاء، معتمدين أشد ما يكون الاعتماد على روح وفلسفة الخطاب التاريخي لجلالة الملك بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب، الذي ما من شك في أنه يشكل المحصن الذي لابديل عنه لمقاربة أي تصور جدي للإصلاح.

بقلم : فريد السموني, أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا