Thursday, December 06, 2012

عقد الاستنفاع : التأصيل الفقهي والمجال التطبيقي


عقد الاستنفاع : التأصيل الفقهي والمجال التطبيقي
د.محمد الصحري
alfakiir@yahoo.fr
إن قطاع المنافع والخدمات أصبح يحتل حيزا هاما في الاقتصاديات المعاصرة  . فهو - حسب إحصائيات منظمة التجارة الدولية - يساهم بالثلثين في الانتاج ، وبالثلث في التشغيل ، وبحوالي 20 في المائة  في التجارة .  و مع هذا الواقع الجديد أضحت الضرورة  ملحة إلى ابتكار عقد يقنن  بيع المنافع  والخدمات   داخل قطاع الخدمات يستلهم روحه من "عقد الإجارة الموصوفة في الذمة "، الموجود في الثراث الفقهي الاسلامي ،  والذي  يهتم  ببيع منافع مستقبلية بثمن حال أو " سلم في المنافع " حسب تعبير الفقهاء.
   ونقترح تسمية هذا العقد الجديد  بعقد الاستنفاع ، الذي يمكن تعريفه بأنه هو عقد يتعلق بإنجاز منفعة موصوفة في الذمة  مقابل ثمن معجل أو مقسط  ، والذي يمكن استثماره في تطبيقات الخدمات المالية الاسلامية .
وهو عقد يقترب في هيكله من عقد الاستصناع ، وفي مضمونه من عقد الإجارة  الموصوفة بالذمة ، وخصوصا   التي يكون فيها العمل  موصوفا في الذمة ، كقول المستأجر : ألزمت ذمتك أو أسلمت إليك هذه الدراهم في صباغة  هذا الثوب. -1-
-1- ضوابط الإجارة الموصوفة في الذمة وتطبيقاتها في تمويل الخدمات في المؤسسات المالية الإسلامية
بحث مقدم لندوة البركة الثلاثون للاقتصاد الإسلامي. رمضان 2009   أحمد محمد محمود نصار . نسخة إلكترونية
نؤصل أولا فقهيا لهذا العقد ، ثم نحدد مجال تطبيقه .
التأصيل الفقهي
يمكن القول أن عقد السلم الذي ورد فيه الحديث الشريف    "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" يشكل المرجع الشرعي في جواز ورود البيع على موصوف في الذمة وصفا يخرجه من المجهولية  إلى المعلومية والتعين . و قد  انسحب حكم هذا الحديث في بداية الأمر على المنتوجات الفلاحية .
كما أن نفس الحديث  تم الاستدلال به على جواز عقد الاستصناع الذي ينعقد بدوره على موصوف في الذمة  بشرط العمل - وهو المستصنع - وصفا يزيح عنه  الغرر والجهالة ، وينقل المبيع من المجهولية إلى المعلومية .  ويختلف عن بيع السلم  بانعقاده على سلعة قابلة للتصنيع ، و إمكانية قيام المشتري  بسداد ثمن السلعة  فورا  أو بالتقسيط أو عند استلام المبيع .
ولا شك أن عقد السلم جاء لسد الحاجة التمويلية للفلاح – ولذلك سماه الفقهاء قديما ببيع المحاويج - في وقت كان فيه القطاع الفلاحي هو المهيمن على النشاط الاقتصادي  ، بإجازة  الفقهاء بيع الفلاح - الذي يعاني من عجز مالي -  منتوجا فلاحيا  موصوفا في الذمة  مقابل ثمن معجل .
ثم  بظهور قطاع حرفي صناعي بسيط دعت الضرورة  لاستحداث عقد جديد يقنن  البيع الموصوف في الذمة  لتسهيل المعاملات  داخل هذا القطاع ، فابتكر الفقهاء عقد الاستصناع الذي ينعقد على سلعة قابلة للتصنيع . وتم تعميم هذا العقد على أنشطة صناعية  متنوعة من طرف الفقهاء المعاصرين .
أما  قطاع المنافع والخدمات فكان  ضعيفا ، وكان  يقننه  نوعان من العقود :
- عقود الاجارة  الواردة على العين : تكون فيها  المنفعة المعقود عليها  متعلقة بنفس العين – إجارة منافع الأعيان-  كإجارة الدار أو الدابة  .
 - عقود الإجارة   الواردة على الذمة : تكون فيها المنفعة المعقود عليها متعلقة بذمة المؤجر ،كقول المستأجر للمؤجر ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب  أو بناء هذا الحائط مقابل كذا من الأجر . وقد أجاز هذه الصيغة الأخيرة جمهور الفقهاء من المالكية  والشافعية والحنابلة باعتبارها عقد إجارة وسلم.
 و الإجارة الموصوفة في الذمة تختلف كما هو معلوم عن الاجارة المعينة  بكونها تقع على منفعة - خدمة- في الذمة دون تحديد من يقدمها ، وهي الأقرب في روحها إلى قطاع الخدمات الحديث  الذي يعرف  خدمات مستقلة لا تستند إلى أعيان وأعمال محددة  كخدمة التأمين  والمواصلات السلكية واللاسلكية مثلا .
و الذي   يبرر  هذه العقود من الناحية الشرعية  لدى الفقهاء هو أن الشارع جعل  للمنافع عوضا ماليا . قال تعالى : "فإن أرضعن لكن فآتوهن أجورهن " حيث جعل الأجر في مقابل منفعة الإرضاع  ، مما يعني أن المنافع مال متقوم  . ذلك أن الأعيان لا تطلب لذاتها ، وإنما لما تسديه  من منافع . . بل إن كثيرا من العقود المالية  تقوم على استيفاء المنافع  كالاجارة والاستصناع  والمزارعة والمساقاة الخ...
 والفقهاء وإن اختلفوا  في مالية المنافع أو تقومها إلا أنهم كانوا متفقين  على أنها محل للملك ، وأن الملك  يرد عليها في العقود .
و  يتكون عقد الاستنفاع  من  المستنفَع – صاحب المنفعة -  ، والمستنفِع- طالب المنفعة  - ، والمستنفَع به ، وهي المنفعة أو الخدمة موضوع عقد الاستنفاع، والثمن .
و بخصوص  تأجيل الثمن أو تعجيله أو تقسيطه  فإن عقد الاستنفاع ،باعتباره عقد معاوضة- مشاركة  ، يخضع  لمبدأ التكافؤ بين العوضين الذي تقتضيه العدالة التعاقدية ، و الذي يؤخذ فيه  عامل الزمن بعين الاعتبار في تحديد الثمن.
 فإذا كان الثمن معجلا  جاز تخفيضه -كما هو عليه الأمر في سَلَم السلع -، أو تقسيطه  فيكون  في هذه الحالة متكافئا مع قسط المنفعة المستوفاة . ويستبعد من العقد تأجيل الثمن تجنبا للسقوط في بيع الكالئ بالكالئ المحظور.
ويبقى التراضي هو سيد الموقف في جميع الأحوال .
وعقد الاستنفاع   يتعلق بذمة المستنفِع  وليس بعمله ، ومعنى ذلك  أن المستنفِع  يتعهد لصاحب المنفعة – المستنفَع – بإنجاز المنفعة الموصوفة   على الوجه المطلوب  أيا كانت الوسيلة إلى ذلك أو الطرف  المنفذ  ، بحيث  يمكن  لمؤسسة مالية إسلامية   مثلا باعتبارها مستنفَعا أن تفوت إنجاز المنفعة التي تعاقدت بشأنها   إلى الغير .  
المجال التطبيقي
إذا اعتمدنا تعريف المنفعة أو الخدمة   بأنها  نشاط غير ملموس  يرمي  إلى إشباع حاجة مباحة لدى  المستهلك ، و تشمل منافع تعرض للبيع  مستقلة  - كالتأمين مثلا - أو مرتبطة  بأعيان فإن عقد الاستنفاع مكن أن يشمل كل الخدمات العمومية أو الخاصة المباحة من نقل وتعليم وتطبيب وتأمين   وهاتف ونظافة وأمن وحراسة  الخ ....
- الخدمات العمومية :
 حيث يمكن مثلا للسلطات العمومية – كمُستنفَع - بموجب عقد استنفاع -  الذي يحدد واجبات  وحقوق كل طرف - أن تملك منفعة  بعض قطاعاتها الخدمية ومرافقها العامة للخواص- عوض خوصصتها وتجريد الدولة من ملكها العام -  كتدبير النفايات المنزلية ، أو الماء والكهرباء ، أو القطاع السمعي البصري ، أو الأمن والحراسة  الخ ...مقابل عوض مالي يتم استخلاصه من المستفيدين من الخدمة المقدمة من طرف المستنفع ، وذلك بناء على دفتر تحملات يتضمن  الشروط الشرعية والتقنية لهذا التدبير، وذلك بهدف تحسين الخدمات لفائدة المنتفعين  .
خصوصا إذا علمنا أن التدبير العمومي أصبح  اليوم هدف   العديد من الانتقادات  التي تتهم القاولات والمؤسسات العمومية بإهدار المال العام  والمحسوبية واستغلال النفوذ  وعدم الفعالية الخ.. ، مما أسفر عن عدد من المظاهر السلبية كالبيروقراطية ، وانعدام الشفافية  ، وتدني المردودية ،  وانعدام المحاسبة مما أدى  إلى ضياع المصلحة العامة .إضافة إلى عجز القطاع العام عن تلبية حاجات المرتفقين بسبب محدودية الموارد المالية المحلية . كل هذا استدعى دخول القطاع الخاص الاجنبي في تدبير عدد من المرافق العمومية  الصناعية والتجارية والخدماتية  من خلال عدد من الصيغ : التحرير،الشراكة والتدبير المفوض.
- الخدمات الخاصة :
كما  يشمل عقد الاستنفاع أيضا  الخدمات التي يمكن أن يؤمنها الاشخاص المعنويون أو الذاتيون   لبعضهم البعض كالتأمين مثلا.
كما يمكن لمؤسسة مالية إسلامية أن تمول بعقد استنفاع  خدمة معينة وذلك باتباع الخطوات التالية :
1 –  وعد عميل المؤسسة باستئجار المنفعة - الخدمة –
2- عقد تملك المنفعة من طرف المؤسسة المالية .
3- عقد تمليك المنفعة للعميل

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا