Thursday, February 07, 2013

دراسة في القانون: النيابة العامة ومدى خضوعها لوزير العدل (1/2)


إذا كان من المسلم به في التشريعات الحديثة، أن النيابة العامة هيأة قضائية، مثلها مثل قضاء الحكم، فإنها تمتاز عنه بما يسميه الفقه الجنائي
 «خصائص النيابة العامة «، وهي : التبعية التدرجية، والوحدة، والاستقلال بيد أن هذا الاستقلال، وإن كان مكفولا لقضاة النيابة العامة
 في ما يخص تعيينهم وترقيتهم وتأديبهم كغيرهم من قضاة الأحكام، فإن استقلال أولئك يختلف عن استقلال هؤلاء،
في ما يخص علاقات النيابة العامة بغيرها من السلطات التي يتصل عملها بها. تعد النيابة العامة (le ministère public) هيأة قضائية، بمقتضى نصوص تشريعية نتيجة تطور تاريخي. فقد كانت تتكون في أول نشأتها في فرنسا في ظل القانون الفرنسي القديم، من موظفين إداريين يعهد إليهم الملك بالدفاع عن مصالحه وأمواله، ثم تطور أمر هؤلاء فأصبحوا وكلاء للملك بمثابة قضاة يدافعون عن المصالح الخاصة للأفراد إلى جانب مصالح الملك، ثم منعوا من ذلك وأصبحت وظيفتهم مقصورة على تمثيل المجتمع في المسائـل الجنائيـة بإقامـة أو تحريـك الدعـاو العموميــة (la mise en mouvement de l'action publique )، وممارستهــا   ( l'exercice de l'action publique )، وهي المهمة الأساسية للنيابة العامة، وعمودها الفقري، باعتبارها أحد الأجهزة الأساسية في النظام القضائي الحديث.
وإذا كان من المسلم به في التشريعات الحديثة، أن النيابة العامة هيأة قضائية، مثلها مثل قضاء الحكم، فإنها تمتاز عنه بما يسميه الفقه الجنائي «خصائص النيابة العامة «، وهي : التبعية التدرجية، والوحدة، والاستقلال بيد أن هذا الاستقلال، وإن كان مكفولا لقضاة النيابة العامة في ما يخص تعيينهم وترقيتهم وتأديبهم كغيرهم من قضاة الأحكام، فإن استقلال أولئك يختلف عن استقلال هؤلاء، في ما يخص علاقات النيابة العامة بغيرها من السلطات التي يتصل عملها بها. وقد نظم هذه العلاقات نوعان من التشريع: تشريع عاد، وتشريع دستوري.
استقلال النيابة العامة في ظل التشريع العادي
يستفاد من فقه المسطرة الجنائية، أن النيابة العامة هيأة وسط بين السلطة التنفيذية من جهة، والمحاكم من جهة أخرى.
من المبادئ المقررة في التشريع الجنائي فصل سلطة الاتهام ( التي هي الوظيفة الأساسية للنيابة العامة ) عن سلطة قضاء الأحكام ، وعن قضاء التحقيق.
فبالنسبة إلى قضاء الأحكام، فالنيابة العامة وإن كانت جزءا أساسيا في تشكيلته الجنائية، فإنها مستقلة عنه. ومن ثمة لا يجوز لقضاء الأحكام أن يتدخل في عمل النيابة بأن يطلب منها القيام بعمل معين ( كأن يطلب منها إجراء أبحاث تكميلية في دعوى مرفوعة إليه )، أو يقوم بدلها بتحريك دعوى عمومية، باستثناء ما ينص عليه القانون أو الامتناع عنه، كما لا يجوز له أن يوجه إليها أي لوم أو انتقاد. ومصداقا لهذا، يحدثنا تاريخ القضاء الجنائي الفرنسي بأن النيابة العامة هناك، رفعت دعوى عمومية على صاحب جريدة بتهمة الطعن على أعضاء النيابة العامة، فدفع المتهم بأن صحفا أخرى طعنت في القضاء ولم ترفع عليها دعوى، فقالت المحكمة في حكمها: إن النيابة العامة كان يجب عليها رفع الدعوى على أصحاب هذه الصحف وانتقدت عدم رفعها عليها واستعملت الرأفة مع المتهم بحجة أنه معذور في فهم أن مثل هذا الطعن غير معاقب عليه. فطعنت النيابة العامة بالنقض في هذا الحكم، فقضت محكمة النقض في قرارها الصادر بتاريخ 13 يناير1881 بإلغاء الحيثيات التي انتقدت فيها محكمة الموضوع عمل النيابة العامة، معللة قضاءها بما يلي: « حيث إن المحكمة ببحثها في واجبات النيابة العمومية وانتقادها في عدم رفعها الدعوى العمومية عن أفعال تعد جرائم تكون قد تعدت حدودها واختصاصها وخرجت عن السلطة المخولة لها « .
وإذا كانت النيابة العامة مستقلة في عملها عن القضاء الحاكم، فهو أيضا مستقل عنها. فلا يتقيد بطلباتها ، حتى ولو كانت رامية إلى الحكم بالبراءة، كما لا يتقيد أيضا بالوصف أو التكييف الذي تعطيه لواقعة معينة.
أما بالنسبة لاستقلال النيابة العامة عن قضاء التحقيق، فإن هذا الأخير لا يمكنه إجراء تحقيق في مادة الجنايات أو الجنح إلا بناء على ملتمس منها، أو بناء على شكاية مرفقة بتنصيب المشتكى طرفا مدنيا حتى ولو حضر بمكان وقوع الجناية أو الجنحة، طبقا للمواد 75،54 و84 من قانون المسطرة الجنائية، كما أنه مستقل عنها، فلا توجه إليه أوامر أو تعليمات، وإنما عليها أن تعبر عما تريده من إجراءات في شكل ملتمسات كتابية، وعليه أن يبت فيها بأوامر، لها حق الطعن فيها بالاستئناف لدى الغرفة الجنحية لدى محكمة الاستئناف، متى رأت وجها لذلك.
وإذا كانت النيابة العامة كسلطة اتهام مستقلة في عملها عن قضاء التحقيق عملا بمبدإ فصل سلطة الاتهام عن سلطة التحقيق، فإن هذا المبدأ ليس مطلقا، وذلك لأن قاضي التحقيق، وإن كان يتقيد بالوقائع التي طلب منه التحقيق فيها، وهو ما يطلق عليه فقها مصطلح « عينية التحقيق «، أو «عينية الدعوى»، فإنه لا يتقيد بالأشخاص المطلوب التحقيق معهم، حيث يجوز له أن يوجه الاتهام إلى أي شخص يظهر له من التحقيق أن له صلة بالأفعال موضوع التحقيق، وإن لم يكن متابعا من طرف النيابة العامة ، عملا بالمادة 84 من قانون المسطرة الجنائية، وهو ما اعتبره بعض الفقه رقابة على عمل النيابة العامة في ما يخص تطبيقها لمبدإ « ملاءمة المتابعة». وذلك فضلا عن المجني عليه، أو المتضرر من الجريمة، لأن الجريمة تعتبر اعتداء على المجتمع، لا اعتداء على فرد معين من أفراده، ما يقتضي مراعاة مصلحة المجتمع في تحريك الدعوى العمومية من عدمه في إطار « مبدإ الملاءمة « المقرر في المادتين 40/1 و49/1 من قانون المسطرة الجنائية، وبذلك تكون النيابة العامة مستقلة عنه، وغير ملزمة بتحريك الدعوى العمومية إذا قدمت إليها شكاية منه، لا سيما أن قضاتها لا يمكن تجريحهم، عملا بالمادة 274 من المسطرة الجنائية لأنهم مدعون، والمدعي لا يمكن حمله على إقامة دعوى لصالح شخص معين، أو ضده، أو وصفه بأي سبب من أسباب التجريح.

بقلم: أبــو مسلـم الحطــاب,  دكتور في الحقوق
  الإجازة في الشريعة
رئيس غرفة سابق بمحكمة النقض
  قاض شرفي من الدرجة الاستثنائية
محام بهيئة الدار البيضاء

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا