Sunday, February 17, 2013

دراسة في القانون: نزاهة القاضي (3/3)


إن استقلال القضاء يمكن مقاربته من خلال بعدين، الأول مؤسساتي يتمثل في استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية تماما
كما عبر عنه الفقيه منتسكيو، وكرسه الدستور الجديد للمملكة ، والثاني ذاتي يهم القاضي نفسه، الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا،
 نزيها، محايدا، متجردا، شجاعا...حتى يتسنى له أداء رسالته على الوجه المطلوب. بمقتضى الفصل 4 من النظام نفسه يمنع إعطاء أوامر أو تعليمات كيفما كانت للقاضي، ولا يسري هذا المنع على المحاكم العليا، عندما تكون مدعوة إلى مراجعة مقررات القضاة الأدنى درجة.
وأخيرا وبمقتضى الفصل 5 من النظام نفسه، يجب أن يبدو القاضي محايدا في ممارسة وظيفته القضائية وعليه أداء وظيفته بالتحفظ والوقار اللازمين تجاه وظيفته وإزاء جميع الأطراف المعنية.
والملاحظ من خلال اطلاعنا على ما تضمنه النظام الأساسي العالمي للقاضي، أن مفهوم النزاهة المفترضة في القاضي حاضر بقوة وإن كان بطريقة ضمنية، ذلك أن الاستقلال والحياد لا يمكن تصورهما دون نزاهة حتى قيل أن النزاهة والحياد وجهان لعملة واحدة اسمها استقلال القاضي، هذه العملة قد تكون رديئة وليست لها قيمة سوقية، وقد تكون جيدة مقبولة وطنيا ودوليا ومن تم يكون لها انعكاس إيجابي سواء على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
 النزاهة من خلال النظام الأساسي لرجال القضاء لسنة 1974
جاء ذكر النزاهة كقيمة أخلاقية في سلوك القاضي من خلال الفصل 18 من هذا النظام.
ونظرا لأهميتها جعلها المشرع موضوع يمين قانونية قبل مباشرة القاضي مهامه، ونعتقد أن القصد من ذلك هو خلق ميثاق غليظ بين القاضي وربه على أن يقوم بمهامه بوفاء وإخلاص وأن يحافظ عل سر المداولات ويسلك في ذلك كله مسلك القاضي النزيه.
نخلص إلى القول، إن مفهوم النزاهة يجسد تلك القيمة الأخلاقية المتأصلة في سلوك القاضي، التي تروم استقلاله وحياده وتؤدي إلى خلق جو من الثقة والطمأنينة والمصداقية في محيط عمله سواء مع زملاءه أو أطراف النزاع أو المتدخلين في العملية القضائية من موظفي كتابة الضبط ومحامين ومفوضين قضائيين وخبراء وعدول والذين هم بدورهم معنيون بالنزاهة عند القيام بمهامهم.
أثار النزاهة كقيمة أخلاقية في سلوك القاضي  سبق وأكدنا أن النزاهة عنصر أساسي في استقلال القاضي كفرد والذي في استقلاله استقلال القضاء كسلطة عن باقي السلط.
وللنزاهة آثار بليغة، فهي ضرورية لتوفير محاكمة عادلة باعتبارها حقا أساسيا من حقوق الإنسان كما هي متعارف علها دوليا، ولعل التقرير الختامي الذي وضعته هيأة الإنصاف والمصالحة بمناسبة انتهاء أشغالها كشف على أن القضاء كان ورقة مضمونة بيد السلطة التنفيذية، وبأن القضاة لم يكونوا نزهاء في اتخاذ قراراتهم في العديد من الملفات، ما كان له انعكاس على صورة المغرب الحقوقية خلال هذه الفترة من تاريخه والتي دخلت متحف التاريخ وبأسلوب حضاري من خلال طي صفحة الماضي والمصالحة مع الذات مع جبر الضرر تحت الرعاية السامية للقاضي الأول الملك محمد السادس.
ويشكل استقلال القضاء بما يكفله من نزاهة وحياد ضرورة ملحة لجلب الاستثمار، ذلك أن المستثمر يرغب في الاطمئنان على مشروعه الاستثماري، وقد شكل القضاء والإدارة عائقين كبيرين في استقطاب الاستثمار لاسيما الأجنبي منه، ما حدا بالمغرب إلى الاتجاه نحو التخصص من خلال إحداث المحاكم التجارية وسن قانون خاص بالتحكيم التجاري الدولي والوساطة الاتفاقية  وإدماجه في صلب قانون المسطرة المدنية.
ضمانات كفالة النزاهة قيمة أخلاقية في سلوك القاضي
أولى هذه الضمانات وأهمها على الإطلاق، هو ضمير القاضي الذي عليه أن يؤمن بأن القضاء ليس وظيفة كباقي الوظائف، وإنما هو رسالة عظيمة عنوانها الحق والعدل بين الناس، وهو اختيار ومن اختار لا يرجع .
ثاني هذه الضمانات، هي اليمين القانونية المقررة في الفصل 18 من النظام الأساسي لرجال القضاء والذي يتضمن قسما عظيم الشأن عند الله تعالى.
بالإضافة إلى هذا وذاك فإن المشرع المغربي من خلال النظام الأساسي لرجال القضاء قد فرض مجموعة من الشروط لتولي القضاء واتخذ مجموعة من التدابير القبلية والبعدية الكفيلة بقياس نزاهة القاضي.
وهكذا جاء في الفصل 4 من النظام الأساسي لرجال القضاء وتحديدا في الفقرة 2 منه « لا يعين أي شخص ملحقا قضائيا إذا لم يكن متمتعا بحقوقه الوطنية وذا مروءة وسلوك حسن»، كما ألزم القضاة بالتصريح بممتلكاتهم وممتلكات أزواجهم، وأعطى لوزير العدل والحريات الحق في تتبع ثروة القضاة وأفراد أسرتهم وإجراء تفتيش بشأنها، هذا فضلا على أن أي إخلال من قبل القاضي بواجباته المهنية من وقار وكرامة ونزاهة قد يعرضه للمساْءلة من قبل المجلس الأعلى للقضاء (المجلس الأعلى للسلطة القضائية)، دون أن ننسى مسطرتي تجريح ومخاصمة القضاة المقررة في قانون المسطرة المدنية.
خــلاصـة :
إن للقضاء كسلطة حرمة، وحرمته من حرمة رجالاته، هو رسالة عظيمة تحتاج في أدائها توازنا نفسيا واستعدادا فكريا والتزاما بأعرافها وتقاليدها المتأصلة في قيمنا الدينية الإسلامية التي تجعل من القاضي خليفة الله في الأرض من خلال ما يحمله من قيم العدل والحق.
والأكيد أن موضوع نزاهة القاضي ستبقى له راهنيته الممتدة في الزمن المستقبل، ولا غرابة في ذلك، طالما أن النزاهة ستظل مقياسا أصيلا في بناء دولة القانون وفي توفير الأمن القضائي، وليس من الصعب الاستدلال على وجود هذه القيمة الأخلاقية  من عدمه في سلوك كل قاض، لاسيما وأن الأمر يتعلق بواقعة مادية يمكن إثباتها بكافة وسائل الإثبات كالقرائن القوية أو باعتماد نظرية الظاهر.
بقيت الإشارة في الختام إلى أن الوضعية المادية غير المشجعة للقاضي سيما المبتدأ لئن كان لها دور مؤثر بالنظر للوضع الاعتباري الذي ينبغي أن يكون عليه القاضي داخل المجتمع ، فإنها لا يمكن اعتمادها وحدها لتبرير بعض الانحرافات، بدليل أن الوضعية المادية التي كان عليها بعض مدراء المؤسسات والمكاتب  العمومية لم تحل دون وقوعهم في المحظور، واليوم هم يقبعون في السجون .

بقلم:د/ يونس العياشي, قاض ملحق بوزارة العدل والحريات
دكتور في الحقوق

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا