Thursday, February 07, 2013

معايير دولة المؤسسات


صارم رسول الفيلي
لعلنا نتفق جميعا على عدم إمكانية فصل الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي عن الإصلاح السياسي والإداري والتشريعي، وأن الوصول إلى الأهداف المنشودة للدولة المتمثلة بالتنمية الشاملة التي تؤمن السيادة الوطنية وتحقق السعادة للمواطن
يتطلب رفع سرعة التفاعلات بين القطاعات المذكورة بكفاءة تضمن الاستثمار الأفضل للمدخلات المادية والبشرية العراقية.  فالدولة من خلال خططها الستراتيجية وإرادة مسؤوليها  السياسية  لترسيخ وتعميق النظام الديمقراطي وإرساء قواعد تحكم عمل المؤسسات المختلفة تقوم على الكفاءة والنظام وحسن الأداء وإعمال القانون ومراعاة العدالة والمساواة في خط الشروع الوطني.
وبوجود إطار تشريعي وقانوني ينظم دور السلطة التنفيذية ومساحة الحرية اللازمة لها  لتحريك وتوجيه عملية البناء  والتنمية واستثمار الإمكانيات المتاحة وجذب الاستثمار الأجنبي، أقول يمكن عبر ما تقدم إحداث النمو الاقتصادي المتصاعد الذي يحرك معه التنمية الاجتماعية خاصة في مجال تضييق البطالة والنهوض بالفئات الفقيرة من خلال تنفيذ برنامج متكامل للأمن الاجتماعي المحقق لكرامة الإنسان, ذلك دون إغفال وجود عاملين أساسيين, الأول  رقابة فعالة على أداء الجهات التنفيذية والنشاطات المالية والاقتصادية والعقود المبرمة وفق معايير الجودة الشاملة للوصول إلى الكفاءات المثلى, والثاني  تضافر المناخات التعليمية والإعلامية والتنظيمية في التركيز على إشاعة ثقافة التقدم كاحترام الوقت وعمل الفريق وتركيز الثقة بإمكانية التغيير الإيجابي  وإعمال آليات التفكير النقدي التي تنتج شخصيات فاعلة تدفع بعجلة الحياة إلى الأمام, واتباع نظم الإدارة الحديثة في مجال التخطيط والتنفيذ والسيطرة والتقييم, وإدارة الموارد البشرية بإعتبارها من العوامل المهمة للنجاح أو نقيضه.
والتوصل لهذه الإنجازات لايتم بدون إرادات وطنية تقدر من خلال مؤسسات قوية لها منهجية تسير وفقها على مواجهة تحديات البناء والتنمية,  مؤسسات تتراكم فيها الخبرة  وتسود فيها  نظم وقواعد متبعة في العالم  المتقدم, منها موضوعية المعايير المستخدمة لاختيار القيادات والكوادر  كالتحصيل العلمي والخبرة العملية والكفاءة  والقدرة على الإنجاز ,  فوضع الشخص المناسب في الموقع المناسب يتيح إطلاق طاقات المجتمع بطريقة منتجة تشجع على الإنجاز والمبادرة والابتكار وتؤدي بالضرورة إلى زيادة  كفاءة مؤسسات الدولة المختلفة, ولاشك بأن بديل هذا  هو تكريس للتخلف  وتشجيع  للفساد وحماية للمفسدين  وإطاحة بمبدأ  تكافؤ الفرص وتهيئة لأجواء الإحباط الجماعي وغياب الثقة بالمستقبل.
هذه المؤسسات المأمولة التي من المفترض أن تتضافر جهود القيادات والنخب السياسية في مفاصل الدولة لترسيخها تنطلق على قاعدة المسؤولية التضامنية لجميع أعضائها في الحفاظ على تماسكها واستمرارية القدرة على أداء الوظائف المؤسسية في إطار تقسيم الأعمال  والمسؤوليات  داخل المؤسسة ومع مؤسسات الدولة الأخرى,  بهدف الوصول إلى أهداف ثابتة تصب  في  مصلحة الوطن  والمواطن, لاتتبدل مع  تغير القيادات ويصعب على جهة أو شخص  مهما كان موقعه أن يحدث تغييرات مهمة في أهدافها الوطنية انطلاقا من مصالح فئوية ضيقة,  فمؤسسات الدولة الحديثة كيانات مستقلة تدار برؤى وأفكار واضحة ونظم حديثة لاترتبط بالأشخاص الذين يرحلون بعد مدة طالت أو قصرت وتبقى هي بمرجعية ثابتة تستمد شرعية وجودها من الدولة والشعب والقدرة على الإنجاز.
واستقلاية المؤسسات تتطلب وضع حدود واضحة بينها تضمن عدم  تداخل الصلاحيات وحدوث تقاطعات بين السلطات الدستورية والمؤسسات المختلفة, وتقطع الطريق أمام محاولات التجاوز على الصلاحيات أو إعاقتها لكسب النقاط السياسية,  فالتوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية ليس شعارا وإنما هو منهج تفكير وسلوك يرتكز على تقديم القدوة الجيدة في الالتزام بالهدف المشترك  للعراقيين المتمثل بالتماسك المجتمعي وتجميع الجهود من أجل النهوض بالواقع واستشراف المستقبل بروح الإحساس بالمسؤولية التضامنية.
فالتطابق بين المفاهيم النظرية وتطبيقات الواقع العملي  للنخب  والقيادات السياسية وآلية عمل المؤسسات المختلفة هو في غاية الأهمية لجهة تشكيل وعي الناس إيجابيا إزاء المشاركة السياسية وصيانة مؤسسات الدولة,  وتشخيص المفسدين والمعيقين للتقدم  ويجعلهم أكثر استعدادا للانتظام في عجلة التنمية واحترام القوانين وصيانة المؤسسات.
اريد أن أقول أن  وجود المؤسسية والتخصص وتقسيم الصلاحيات هو من المعايير الأساسية للديمقراطية, فهو يوسع المساحة القيادية في المجتمع ويساعد على بروز  قيادات جديدة في المواقع السياسية والاقتصادية وفي التخطيط  والإدارة ومراكز البحوث،  ليتحقق أحد شروط الحراك المجتمعي  والمتمثل بمبدأ تعاقب النخب بما يدفعه من دماء جديدة  في شرايين المجتمع  وطاقات منتجة تساهم مع  بقية الطاقات المتميزة الموجود في إحداث التراكم الإنجازي والمؤسسي, كشرط أساس للتواصل الموضوعي لخطط  وجهود عملية البناء والتنمية والتطوير على المسارات المختلفة ,  فالتقدم لايتحقق إلا عبر صيانة آليات التواصل  والاستمرار  وتبديل المفاصل والهياكل غير الكفوءة فيها, ولست أشك لحظة في أن هذه الآليات ستؤدي إلى تطوير المؤسسات نفسها  والتي بدورها ستكون مراكز خبرة  لتأهيل الكوادر والقيادات الشابة  لشغل المواقع المستقبلية وفق مؤشرات موضوعية بعيدة عن المحسوبيات والمحاصصات.
 كما  من شأن المؤسسية  تكريس ثقافة النظم  بدلا من ثقافة الأشخاص، ومن خصائصها إنها تأتي بالأشخاص الأكفاء الذين تتحق فيهم الشروط  والمعايير الوظيفية المتبعة, بينما ثقافة الأشخاص حيادية سلبية  فقد تأتي بالأكفاء كما  قد تأتي بالفاشلين والقاصرين والفاسدين عبر عوامل الاختيار الخاطئة كالانتماءات الضيقة والمحاصصة المقيتة, وهذه تجعل المؤسسة تختزل بدور الشخص والمسؤول الذي يستمد القوة والمكانة  والامتيازات والمجد الشخصي من الموقع الذي يشغله في ظل غياب التوازن مع ما يمتلكه من مؤهلات  ويقدمه من خدمات  ويتصدى له من مسؤوليات,  في أجواء تتوارى فيها التقاليد المهنية والوظيفية وتنعدم فيها الآليات الفعالة لإبعاد القاصرين  والمفسدين عن مواقع المسؤولية في الوقت المناسب.
كما أن المؤسساتية هي ضرورة للنجاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات والتأقلم مع التغيرات التي تطرأ على الاقتصاد العالمي، فهي توفر الضمانات القانونية  والإجرائية للالتزام بالعقود وتوفير الظروف والشروط الملائمة لتحقيق العقود الداخلية والخارجية اهدافها النهائية, وتضمن الانطلاقة الصحيحة لها التي تبدأ بتوفير المناخ الإستثماري الملائم وربط الأهداف الاستثمارية بآليات عمل الإدارة الستراتيجية للمؤسسات الحديثة بترتيب الأولويات الاستثمارية ووضع السياسات والبرامج والتوقيتات ومعايير التقييم والتقاضي والتحكيم في الخلافات التي قد  ترافق التنفيذ  ومطابقته للمواصفات والشروط الموضوعة.
ودولة المؤسسات هي دولة المعايير الموضوعية التفصيلية لجميع المهن  والعمليات والنشاطات, فلو ألقينا  نظرة على قواعد وأنظمة العمل في قطاع صناعي أو خدمي معين في الدول المتقدمة لوجدنا مجلدات تضم أدق التفاصيل,  فإن قامت شركة نفط بحفر  بئر  لوجدنا  جداول تضم طبقات الأرض وتحدد الأمتار التي يجب أن تحفر يوميا مقابل الطواقم البشرية والمعدات الهندسية وظروف العمل وأرقام محددة لعشرات الحالات بما فيها احتمالات التعطيل المحسوبة وغير المحسوبة وتأثير الأعمال على البيئة.
ناهيك عن تكلفة حفر المتر الواحد  وسرعة الإنجاز وعوامل السلامة من الحوادث  والتعويضات المترتبة عليها وعشرات الفقرات المتنوعة وهذه مجمعة في برامج  معدة لحساب الشركات  ضمن مواصفات ومقاييس متفق عليها, وينسحب الشيء  نفسه إلى  قطاعات البناء  والصناعة  والصحة  ومختلف الأنشطة، وبالتالي تأتي سهولة وانسيابية عمليات التخطيط  والتنفيذ  للبناء والتنمية والتطوير والحكم على معدلات الأداء الجيد والمقبول وما هو دون المقبول وتقييم القيادات والكوادر  وترتيب المؤسسات وتصنيفها حسب المعايير المعتمدة.
وتمتد المعايير لتصل إلى أداء أجهزة الدولة المختلفة ومدى تحويلها الوعود السياسية إلى برامج تحقق إنجازات على الأرض في إطار الاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية وعامل الزمن, وتحليل النتائج المتحققة والتاكد من سلامة تنفيذ الخطط الوزارية والأعمال الحكومية من النواحي المالية والإدارية والقانونية, وحسن تطبيق معايير الجودة الاقتصادية وأيضا الجدوى السياسية بمعنى الآثار التي تركها الوزير والمسؤول والمحافظ أثناء التصدي للمسؤولية   كشعور المواطن بالرضا من الخدمات التي تقدمت وتأثير ذلك على المزاج الشعبي إيجابا وسلبا, بالإضافة لتحقيق المدخلات لأهداف الوزارة والمؤسسة بأقل قدر من الهدر المادي والزمني, ومراقبة المديونية الداخلية والخارجية ومؤشرات الاقتصاد المتعددة والأسعار والقدرة الشرائية للمواطن.
وتقدم المؤسسات المختصة المستقلة عن الحكومة بعد ذلك اقتراحات لتطوير الأداء الحكومي والسعي لإحداث الزيادة المستمرة في أداء الأجهزة التنفيذية والتشريعية والقضائية وحتى الرقابية نفسها باتباع مفهوم القياس المرجعي لتجويد الأداء وتحسين الخدمات والمنتجات وبالتالي تفعيل كافة الهياكل والمفاصل في الدولة.
هذا يعني توسيع دائرة المشاركة  في البناء  وترشيد  مراحل وعمليات صنع القرارات التنموية على  كافة المسارات  وهو من عناصر ستراتيجيات التطوير المؤسسي والسياسي في الدول المتقدمة.
بقي أن أقول أن  دور المؤسسة لايلغي إطلاقا  أهمية الفرد المسؤول ورؤيته  وتوفره على إرادة التغيير الإيجابي وإمتلاكه الخيال السياسي والشجاعة  والقدرة على ابتكار وسائل فعالة تجد حلولا غير تقليدية لمشاكل الدولة أو الوزارة أو المؤسسة, لكن يجب التفريق بين هذا , وبين أن ننظر إلى الشخص المسؤول على أنه أكبر من المؤسسة التي يديرها, أو ننتظر منه أن يكون العامل الوحيد الذي يغير الأجواء ويطرد عوامل الإحباط, فهذا لا يتفق مع مبادئ الإدارة في العالم المتقدم التي تاخذ من المسؤولين أفضل ما يمتلكونه من مزايا وقدرات مع بقاء الثقل لصالح  المؤسسة وأطرها وانظمتها وآلياتها فهي عامل التقدم الأساس  وليس المسؤول الفرد مهما امتلك من صفات إيجابية.

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا