Wednesday, February 13, 2013

دراسة في القانون: أي إستراتيجية لإصلاح العدالة الجنائية؟ (الحلقة الأخيرة)


مما لا شك فيه أن مجهود الحكومة اليوم أصبح يميل إلى الاهتمام، أولا بفكرة إصلاح العدالة الجنائية، ليس فقط لأنه مطلب مجتمعي بامتياز،
ولكن أيضا لأنه يلتقي تماما مع ما توافر لدى الفاعلين الحقوقيين من تصور مبدئي لمقاربة موضوع الإصلاح من زاوية مواجهة ظاهرة الجريمة
بمفاهيم متطورة، من شأنها أن تقنع الجميع بأن إشكالية الأمن والاستقرار هي أيضا مسؤولية قضائية.

 نعتقد أن موضوع مكافحة الجريمة ولو أنه يدخل في صميم مسؤولية الدولة التي عليها أن تضع له سياسة جنائية متجددة و متطورة، يجب أن لا يقفز على ما يضطلع به القضاء الجنائي من دور في هذا المضمار، باعتباره المؤسسة المؤهلة  التي تضمن للدولة الهامش المطلوب للمحافظة على حيادها في تدبير التناقضات المجتمعية. وبنظرنا المتواضع، لا يمكن أن يتأتى ذلك من دون هيكلة، قوتها تظهر بالأساس في مدى استجابتها للطبيعة المركبة التي يعرفها مفهوم الدعوى في المجال الجنائي، مع استحضار بعض مظاهر التعقيد التي قد تفرزها خصوصية الحسم في بعض الجرائم.
وفي هذا الصدد، لا نرى ما يمنع من أن تشغل النيابة العامة دور المفعل والمطبق لسياسة الحكومة في مكافحة ظاهرة الجريمة، كل ذلك في إطار علاقة واضحة ومسؤولة مع السلطة السياسية المسؤولة عن القطاع. فالتبعية هنا، لا تعني المساس بمبدأ استقلال القضاء بقدر ما تهدف إلى تحصين الجهاز، الذي أنشئ في الأصل ليكون مؤتمنا على تجسيد الحق العام في مفهومه الحضاري، أي المستجيب لما تفرضه دولة الحق والمؤسسات من أمن واستقرار يحفظ للدولة مكانتها ويعزز ثقة المواطنين بمؤسساتها ويؤمن للمجتمع حقوقه الواجبة.
مع ذلك، لا بد أن نثير الانتباه، إلى أن تمتين هيكلة القضاء في المجال الجنائي يصبح غير ذي معنى، إذا لم يسترجع قضاء التحقيق مكانته الطبيعية التي تجعل منه فعلا صمام الأمان الذي يحصن مفهوم الدعوى العمومية ضد كل المشاكل المحتملة، والتي غالبا ما يكون سببها عدم الاحتكام لهذه المرحلة المهمة. فقاضي التحقيق باعتباره قاضيا ورجل بحث واستدلال، نعتبره المؤهل أكثر من غيره ليلعب دور الوسيط المؤتمن على مصير الأشخاص المقدمين للعدالة. فالمتابعة لا تعني حتما الإدانة، ووضعية الشاهد يمكن أن تحمل بين طياتها ما يستدل به على التورط في ارتكاب الجريمة، إذا أضفنا لهذا وذاك ما توفره مرحلة التحقيق من ظروف نفسية ملائمة، من شأنها أن تلطف من بعض ردود الفعل السلبية المرتبطة فقط بطبيعة القضايا في المجال الجنائي، نستطيع أن نرد على المشككين في الدور الإستراتيجي الذي يضطلع به قاضي التحقيق، بأنه لم يعد اليوم مستساغا اختزال هذا الدور في بعض القضايا، كثيرا ما ساد الاعتقاد بأن تعقيدها يكمن في مدى جسامة عقوبتها، ولعلها المغالطة التشريعية والفقهية، التي كثيرا ما تساهلت مسطريا مع بعض الجنح مع أن خطورتها ليست مثار جدل.
حتى لا نطيل في هذا الجانب، يكفي القول بأن توزيع العدل الجنائي بين عدة مؤسسات وجهات قضائية هو في أمس الحاجة اليوم إلى منهجية عقلانية تبحث عن إضفاء مزيد من الثقة في العدالة الجنائية، و لا يمكن أن تتأتى سوى بتوسيع هامش الاقتناع بأن موقع العدالة الجنائية لا يتعزز فقط بإصدار الأحكام وعدم التساهل مع مرتكبي الجرائم – مع اعتبارنا لأهمية ذلك – بل أيضا بما تبثه من ثقة في نفسية المواطنين وما تكرسه من وعي بالتمسك بالقيم الحضارية، التي اختارها المجتمع و قبل السير وفقها.
   أما على مستوى الوظائف، فمع اعتبار التحسين الواضح الذي أدخله القانون الجديد للمسطرة الجنائية، الذي حاول به من خلاله تحديث منهجية التعامل القضائي مع ظاهرة الجريمة بتكريس المقاربة النوعية للحسم في بعض القضايا، نعتقد أنه مازال على المشرع أن يبذل مجهودا إضافيا خصوصا في الجانب الذي يعترف فيه للعدالة الجنائية و بشكل حاسم وجريء باستثمار مجالها الخاص لخوض تجربة التخصص، مادام أن الواقع أصبح يؤشر وبشكل غير مسبوق على تطور مقلق لتجليات السلوك الإجرامي، الذي أخذت فيه الخطورة والتعقيد أقصى درجاتهما، بحيث لم يعد مقبولا اليوم التخلي عن الخصوصية التي تحوزها المادة الجنائية وتبرير ذلك بعقلنة الموارد البشرية. وهنا لابد أن نستحضر المنحى المتطور، الذي سلكه القانون الجديد للمسطرة الجنائية باستحداث مؤسسة قاضي تطبيق العقوبات، ونحن نرى في هذه المنهجية السليمة اعترافا تشريعيا بمدى تجذر الخصوصية التي تحوزها الوظائف القضائية في المجال الجنائي، التي بنظرنا، تنطلق من واجب مكافحة الجريمة والحد من إعادة انتشارها إلى أن تصل إلى تكريس المستوى المطلوب من الثقة في أجهزة العدل مرورا بتأصيل الوعي بالاحترام الواجب للدولة ومؤسساتها وتحصين المجتمع ما يهدد أمنه واستقراره وضمان الحقوق والحريات، ولعل في تكرار هذه الأمور الحيوية فائدة منهجية لتوجيه فكرة الإصلاح.
   إن إصلاح العدالة الجنائية على مستوى الوظائف لا يمكن اختزاله أو تحجيم أهميته في ضمانات المحاكمة العادلة، فأهمية احترام هذا المبدأ الإستراتيجي لا يمكن أن تظهر سوى في إطار فلسفة تشريعية جديدة، تستثمر مبدأ الفصل بين الوظائف القضائية، في ما يشعر كل مؤسسة قضائية بأن نجاح عملها يرتبط وظيفيا بما تساهم به في تسهيل القيام بالوظائف الأخرى، وهنا لابد أن نؤكد على فكرة وحدة الملف في المادة الجنائية بالرغم من تعدد الجهات القضائية المتدخلة فيه – والمرشحة للارتفاع – . فمبدأ المراقبة المتبادلة لا تعني التشكيك في مصداقية المهام المنجزة سابقا، ولا حتى إقامة حدود مسطرية فاصلة، غالبا ما ساهمت في تقليص فرص التعاون بين المؤسسات القضائية المتدخلة. بل إن المقصود من المراقبة هنا بذل مزيد من الحرص والتريث بالحسم في الإدانة. ولعلها القيمة المسطرية المثلى التي يحوزها مبدأ البراءة الأصلية الذي أصبح المشرع المغربي يتصدر به مواد المسطرة الجنائية. وإلا كيف يمكن أن نقبل منطقا وقانونا استمرار أغلب التشريعات في تسخير كل هذه الوسائل المادية و البشرية للحسم في النازلة الواحدة؟
أيضا لا يمكن للوظائف القضائية، أن تعرف تطورا نوعيا في المجال الجنائي من دون تحريرها من الانغلاق، أي بجعلها عدالة قريبة من المواطن في تواصل دائم معه، مستجيبة لردود فعله، عاكسة لتصوراته وتطلعاته، باحثة عن تقدمه وتحضره. فوظائف العدالة الجنائية، وعلى خلاف ما يعتقده البعض، نجاعتها تقاس بمدى قدرتها على استثمار فرصة المحاكمة من أجل احتواء مظاهر التوتر والاضطراب التي يتسبب فيها السلوك الإجرامي، وهذا لا يمكن أن يتم سوى بتحريك الخطاب الزجري في الاتجاه الذي لا يقف عند حدود الردع، بل يتعداه إلى إشعار كل المخاطبين به بأن للحقوق والحريات حدودا، فلسفتها تنبني بالأساس على قبول العيش ضمن المجتمع بكل مكوناته، وأن لا سبيل لإضفاء الشرعية على الانحراف عن الثوابت والقيم الحضارية باعتبارها مكتسبات مجتمعية، لا محيد عن تكريس الوعي بضرورة الحفاظ عليها، ولعلها بنظرنا المتواضع، النتيجة المثلى التي ينبغي أن تستهدفها إستراتيجية الإصلاح.
ختاما، ونحن ننتظر بكل تفاؤل توصيات الهيأة العليا للحوار الوطني حول إصلاح العدالة، واثقين في تكلل أعمالها بالنجاح المنشود بعد المباركة المولوية السامية لجلالة الملك محمد السادس،لابد من التأكيد على أن إصلاح العدالة لابد وأن يرتبط في روحه وفلسفته باستشراف مستقبل كلية الحقوق ببلادنا، حتى يرتبط تحديث منظومة العدالة بتطويرالجهة التي كانت ولاتزال تزودها بالأطر المؤهلة.



بقلم:د. فريد السموني, أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بالمحمدية

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا