Sunday, April 14, 2013

دراسة في القانون: إشكالية العلاقة بين الإعلام والقضاء (1/2)


في سياق الحوار الوطني حول الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة وفقا لخارطة الطريق التي وضعها وحددها رئيس السلطة القضائية صاحب الجلالة الملك محمد السادس، والذي تشرف عليه الهيأة العليا للحوار الوطني بمشاركة فاعلة ووازنة لمختلف الهيآت
والفعاليات المهتمة بشأن العدالة ببلادنا، وتسهر على إدارته وزارة العدل والحريات. في الوقت الذي كان فيه الجميع يتوق إلى حوار رصين وهادئ، يتوخى الموضوعية ويرتقي بمستوى الحوار والنقاش إلى ما تقتضيه المصلحة العامة ورفع التحديات التي تواجهها بلادنا في تحديد معالم المستقبل برؤية واضحة، ترسم آفاقا رحبة في تكريس بناء دولة الحق والقانون، فإن ما جرى خلال اليوم الدراسي الذي تم تنظيمه في إطار سلسلة الندوات المنعقدة في إطار الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة قد حاد عن مقومات النقاش الديموقراطي الهادئ والرصين، مما حفزني على المساهمة عبر منبر الصحافة من موقعي المهني للمساهمة في هذا النقاش الفكري والقانوني حول إشكالية العلاقة بين الإعلام والقضاء.
هذا النقاش الذي أصبح يحتل موقع الصدارة في مختلف المنتديات المهتمة بالشأن العمومي ومن ضمنه منظومة العدالة، ليس فقط في الدول الحديثة بالممارسة الديموقراطية، بل وحتى في الدول ذات التقاليد الديموقراطية العريقة. ومنبع هذه الإشكالية أن كلا من الإعلام والقضاء يرتبطان باثنتين من الحريات الأساسية التي تشكل عمق وصلب ثقافة حقوق الإنسان: الأولى هي حرية التعبير، والثانية هي الحق في محاكمة عادلة وما يتصل بها من ضمانات أهمها مبدأ استقلال القضاء وحياده.
ولتحليل هذه الإشكالية، أقترح التطرق إلى هذا الموضوع من خلال محورين أساسيين يعالج الأول العلاقات المفترضة بين الإعلام والقضاء.
و الثاني يتناول الإشكاليات التي تثيرها هذه العلاقة وسبل تجاوزها.
المحور الأول: الإعلام والقضاء: أي علاقة مفترضة؟
لا شك أن حرية التعبير تعتبر أهم وأقدس مبادئ حقوق الإنسان، بل تشكل أساس كل تنظيم ديموقراطي. وعلى هذا الأساس اعتبرت الصحافة وغيرها من وسائل الإعلام، أحد أهم أركان الديموقراطية، لأن حرية الإعلام تعني حق الشعب في تلقي المعلومة حول الشؤون العامة حتى يتمكن من المشاركة السياسية بوصفها إحدى دعائم النظام الديموقراطي.
وإذا كان الأصل أنه لا يجوز تقييد حرية الإعلام تحت أي مبرر كان، بل على العكس من ذلك تماما فإن منطق الأشياء يفرض أن تكون هذه الحرية مضمونة بنص الدستور، كما هي مضمونة بنص المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، لأن في تقييدها إهدارا للطاقات المتدفقة من الحرية المرادفة لقيم الإبداع والخلق والابتكار من جهة ومن جهة أخرى، يؤدي إلى تكريس عدوان السلطة العامة وميولها نحو القمع والردع، مما يهدد في النهاية أمن الوطن واستقراره.
وإذا كان هذا هو الأصل في حرية الإعلام، إلا أن هذه الحرية ليست مطلقة، فلا يجوز الانحراف في ممارستها من خلال التعسف في استعمالها، وتجاوزها ما هو مقرر لها قانونيا ودستوريا. فإقرار مبدأي المسؤولية والمحاسبة عن التجاوز في الممارسة الإعلامية هو الضمانة لها والدعامة لتطورها، فالقانون حين يصون حرية الصحافة يكفل في الوقت ذاته، عدم تجاوز هذه الحرية بما يضمن عدم إخلالها بمقومات الأمة ومقدساتها المقررة دستوريا.
ومن هذا المنطلق، يبدو أن ثمة بين الإعلام والقضاء أكثر من نقطة التقاء أو وفاق، بالرغم من أن الصورة الخارجية لهذه العلاقة لا تعكس هذا الوفاق:
فالإعلام، ولسنا بحاجة هنا إلى التأكيد على أن المقصود بالإعلام في هذا السياق، هو الإعلام الجاد والمسؤول، يحترم القضاء ويخضع لأحكامه ويدفع في اتجاه استقلاليته واستقلالية القائمين عليه. والقضاء يحترم قدسية الرسالة الإعلامية ونبلها، ولا يتطاول على مهنييها إلا في إطار ما ينص عليه القانون.
كما أن الإعلام يعترف بالدور المركزي للقضاء في بناء الديموقراطية وإقامة دولة الحق والقانون، والقضاء بدوره لا ينكر على الإعلام الدور نفسه أو ينتقص من مفعول إسهامه.
والإعلام يفضح التجاوزات ويندد بانحراف السلوكات، تماما كما يسهر القضاء على تطبيق القانون في حق المتجاوزين وتقويم المنحرفين.
غير أنه رغم هذا الالتقاء بين الإعلام والقضاء فإنهما مختلفان، بل قد تكون بعض عناصر الالتقاء المذكورة سببا في التصادم والتضاد بينهما أحيانا: فإذا كانت الصحافة هي سلطة شعبية تعبر عن اتجاهات الرأي العام، فإن القضاء سلطة من سلطات الدولة تعبر عن سيادة القانون بوصفه أساس الحكم كله.
وباستقراء التجربة، ليس في بلادنا فقط بل في عموم بلاد الدنيا، سنجد أن هذا التصادم أحيانا بين الإعلام والقضاء، يمكن رصده من خلال المظاهر التالية:  التشكيك المتبادل بين الإعلام والقضاء من حيث استقلالية كليهما عن السلطة التنفيذية، وضغوطات اللوبيات وجماعات الضغط ومراكز المصالح السياسية والاقتصادية والمالية.
الإعلام لا ينظر إلى الأحداث والوقائع بنفس نظرة القضاء لها، كما لا تهمه كثيرا طقوس وأدبيات اشتغال المؤسسات القضائية التي تهتم كثيرا بجانب الشكل المسطري إلى جانب المضمون.
ولهذه الأسباب كثيرا ما نرى أن القضاء يضيق بالإعلام، ونرى أن الإعلام يشكو من القضاء عدم مسايرة وتيرته. وكثيرا ما نرى القضاء في موضع التشهير والافتراء على صفحات وشبكات وسائل الإعلام المختلفة، فقط لأن قراراته جاءت مخالفة لتوجهات الإعلام.
إن تجاوز مظاهر التضاد هذه، يفترض من الفاعلين في مجال القضاء والفاعلين في مجال الإعلام، التركيز على البعد التكاملي للعلاقة بينهما، وتعزيزه، قبل التفكير في سبل تجاوز هذه المظاهر السلبية، فالقضاء يمارس وظيفته محاطا بعدد من الضمانات الدستورية، منها الحق في التقاضي والحق في المحاكمة العادلة، والحق في استقلال القضاء وحياده، وقرينة الأصل في المتهم البراءة. كما أن علانية المحاكمة ضمان هام لمشروعيتها. لأنها تكفل شفافية إجراءاته وأحكامه وتوفر للمواطنين وسيلة التحقق من مراعاة ضمانات المحاكمة للوصول إلى العدالة. بل إن علانية المحاكمة هي الطريق نحو الإعلام، فمن خلالها يستطيع الإعلام نشر معلومات محايدة تتعلق بنشاط المحاكم، فتسهم في شفافية أداء القضاء دون التأثير في مجرياته. وهو ما يدعو إل تعزيز مكانة الإعلام القضائي الذي يجب أن يتسم بالمعرفة الواسعة بالمعلومات القانونية والقضائية.
ومن ناحية أخرى فإن الإعلام يتكامل مع القضاء في أن الاثنين معا من دعائم الديموقراطية التي لا تقوم بغير احترام الحقوق والحريات واستقلال القضاء، فإذا كان الإعلام وسيلة للدفاع عن الحقوق والحريات، فإن القضاء هو الحارس الطبيعي لها والكفيل بحمايتها. كما أن الإعلام والقضاء يكشفان الحقائق ويتصديان للتجاوزات ويشيران إلى مكامن القصور ويعملان على تقويم السلوك.
فالإعلام من ناحية يكشف الانحرافات، فإذا ما عرضت على القضاء يعمل عليها حكم القانون. وعلى ذلك الأصل فإنه لا يجوز أن ينشأ تناقض بين الاثنين حرصا على الحرية والعدالة وسيادة القانون، فالديموقراطية لا تقوم إلا بتكامل الاثنين معا، مما لا يجوز معه أن تتنافر ثقافة الإعلام مع ثقافة القضاء.

بقلم: عبد العزيز بوزيان, الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بفاس ورئيس المكتب الجهوي للودادية الحسنية لقضاة جهة فاس- تازة

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا