Tuesday, June 04, 2013

ملاحظات حول إصلاح النظام الجبائي المغربي (5/5)


إعادة تنظيم سياسة التدخل الجبائي
أصبحت سياسة التدخل بواسطة الضريبة تفرض نفسها، أكثر من
أي وقت مضى، كوسيلة متميزة لتحقيق أهداف متعددة وعلى جميع المستويات. لكن استعمال هذه السياسة يتطلب شروطا من قبيل «الدراسة، المتابعة، المراقبة والتقييم»، وذلك لضمان نجاحها. من هنا، تكمن أهمية وضرورة إعادة تنظيم سياسة التدخل الجبائي في المغرب بحيث تأخذ بعين الاعتبار هذه الشروط لتجاوز بعض سلبيات السياسة المعتمدة، خصوصا وأن المغرب أصبح يتوفر على تقارير سنوية حول النفقات الجبائية.
1 – ضرورة اعتماد معايير ومبادئ جديدة:
سنحاول تحديد بعض المعايير والمبادئ الجديدة التي ستساعد على عقلنة نظام التدخل الجبائي، وتشكل أيضا قطيعة مع التجارب السابقة.
أ- التحديد الدقيق للأهداف: إن ثنائية التدخل الجبائي والتنمية تتطلب الانطلاق، أولا، من توضيح أي شكل من السياسة الجبائية في خدمة أي شكل من التنمية؟ فالسياسة الجبائية في الدول المتقدمة تخضع لتحليل مفاهيمي يأتي في إطار سياسة متكاملة، تعتمد استراتيجية متوسطة أو بعيدة المدى. وبالنسبة إلى تجربة المغرب، يلاحظ كيف أن أغلب الإجراءات الجبائية جاءت ضمن سياسة ظرفية، إما بفعل تأثير جهة معينة أو لتجاوز أزمة قطاع معين، حتى أصبحنا أمام صورة كاريكاتورية تتمثل في أن «أي مشكلة تطرح إلا ويتم البحث لها عن حل في السياسة الجبائية».
لذلك، فإن سياسة تدخل جبائي فعال تقتضي تجاوز الممارسات التي طبعت تنفيذها خلال العقود الأخيرة، كما تتطلب وضع حدود فاصلة بين ما يمكن وما لا يمكن حله عن طريق الجباية؛ فالتنمية الحقيقية لا تتحقق بفعل الصدفة، ولكن نتيجة سياسة ملائمة ومحددة تعتمد توجهات ودراسات متخصصة لطبيعة هذه التنمية. وفي هذا الإطار، تبرز قيمة عملية التحديد الدقيق للأهداف المنشودة من وراء منح التدخل الجبائي، وكذا تحديد وسائل التطبيق. وهذه الخطوة يجب أن تكون ضمن رؤية متوسطة المدى، ووفق سياسة كاملة، تعتمد على الاعتبارات التالية:
- الواقعية في التصورات: فالأهداف يجب أن تكون قابلة للتحقيق وتتماشى والإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة. والابتعاد عن أسلوب المزايدات إرضاء للحسابات الانتخابوية التي عهدناها في الحكومات المغربية المتعاقبة والأرقام المبالغ فيها
- التدقيق في التوقعات: لأن المسألة تتعلق بمستقبل البلاد، فلا بد من تجاوز المظاهر الخادعة التي تميز غالبا عملية تحديد الأهداف المتوقعة، ولا جدوى من تحديد تصور نظري يعتمد على توقعات خيالية.
- تحديد الوسائل التطبيقية: فأي سياسة تحتاج إلى وسائل لتنفيذها، لذلك يجب إبراز كافة الوسائل التي ستمكن من تحقيق أغلب الأهداف المتوقعة.
- الوضوح في التوجهات: ضرورة تحديد القطاعات الإنتاجية القادرة على تحقيق الأهداف المتوقعة، وعدم إدخال قطاعات لأسباب أخرى بغية الاستفادة فقط من الامتيازات لا غير، فمبدأ الضروري والضروري جدا يفرض نفسه هنا.
ب- اعتماد مبدأ التصنيف: إن تدخل جبائي فعال في إطار الاستراتيجية الجبائية الجديدة، يقتضي، تصنيفا للإجراءات التشجيعية المستعملة، وذلك حسب أهميتها ومدى ملاءمتها للأهداف المنشودة؛ فانعدام هذا التصنيف يؤثر سلبا على فعالية مبدأ التدخل الجبائي ويجعل نظام الامتيازات الجبائية بشكل عام نظاما سكونيا.
ج – تصنيف الامتيازات الجبائية: فالتجارب السابقة بينت أن الامتيازات الجبائية تم سنها في أغلب الأحيان بغية تمكين فئة قليلة من المقاولات، وبعض الفاعلين، من الاستفادة منها. وذلك دون أية علاقة بين هذه الامتيازات والأهداف التنموية. وقد كلفت هذه السياسة التشجيعية الخزينةَ العامة خسارةً مهمة أثرت، بشكل كبير، على مسار السياسة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. والمبدأ الأساسي الذي يجب اعتماده في هذا الإطار هو منح -فقط- الامتيازات الجبائية (الضرورية والضرورية جدا)، وكذلك التمييز بين الإجراءات التي تشجع توجيه الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة، والإجراءات التي قد تعرقل هذا التوجه. وأخيرا، فإن مبدأ التصنيف يعطي للنظام التحفيزي الوسيلة الضرورية لمراقبة المشاريع المستفيدة، وبالتالي ضمان المردودية وتقليص نسبة الخسارة الجبائية.
د – تصنيف الاستثمارات المستفيدة: يعد الاستثمار شرطا أساسيا لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لكن لا يمكن اعتبار جميع الاستثمارات المنجزة أو المستفيدة، صالحة للمساهمة في تحقيق هذه التنمية؛ فسياسة تشجيع الاستثمار كانت نتيجتها خليطا متنوعا من المشاريع، وهي في أغلبها لا تدخل في إطار التخطيط الموجه حسب الاختيارات الأولية. والتدخل الجبائي الفعال يقتضي تصنيفا للمشاريع الاستثمارية المستفيدة، وذلك حسب أهميتها والدور الذي يمكن أن تلعبه في سبيل تحقيق التنمية المنشودة.
وفي هذا الإطار، يرى الأستاذ فونتانو أن «مفهوم التصنيف في السياسة الجبائية يشكل أهمية رئيسية في مجال الاستثمار، لأن المفهوم الكيفي هنا يعد أكثر من المفهوم الكمي». كما أن خبراء منظمة التجارة والتنمية يحذرون سلطات الدول النامية من سياسة جلب أي استثمار. ولكن يجب الاقتصار فقط على الاستثمارات التي تتوفر على الإمكانيات التي تجعلها تساهم في تأهيل اليد العاملة أو الانتقال التكنولوجي، وكذا تنمية بعض القطاعات الأساسية. وتصنيف المشاريع يبرز بشكل واضح قيمة بعضها؛ فقد تكون مهمة من الناحية النظرية (أي على الأوراق)، في حين بمجرد دخولها حيز التنفيذ تكون نتائجها مخيبة للآمال. والأمثلة في المغرب كثيرة ومتنوعة حتى إن بعض الاستثمارات جاءت إلى المغرب في مرحلة سابقة فقط للاستفادة من الامتيازات.
2 – تقرير النفقات الجبائية آلية لعقلنة سياسة التدخل الجبائي:
يعد مفهوم النفقات الجبائية الإطار النظري الملائم لدراسة وعقلنة ظاهرة استعمال الجباية لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية؛ فقد أكد الأستاذ مكطوف والأستاذ سوري، منذ سنة 1982 على أهمية التحليل بمفهوم النفقات الجبائية، قصد عقلنة السياسة الجبائية بشكل عام، وركزا على إيجابيات هذا التحليل بالنسبة إلى الدول النامية. وهكذا، فإن أغلب دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية تنجز -منذ عقود- تقارير دورية حول النفقات الجبائية، تساعدها على الوقوف على نقائص سياستها الجبائية.
وبالنسبة للمغرب يعتبر أول بلد على الصعيد الإفريقي والعربي الذي ينجز تقريرا حول النفقات الجبائية ويقدم كوثيقة مصاحبة للقانون المالي السنوي، وذلك منذ إنجاز أول تقرير سنة 2006. وبطبيعة الحال، فإن هذه التقارير ستنعكس إيجابيا على مجموع السياسة الجبائية، بل ستساهم في إنجاح أي تستراتيجية جبائية جديدة؛ كيف ذلك؟
أ- ستساهم في الوقوف على نقائص السياسة الجبائية وإصلاحها: ساهمت الدراسات التي تهتم بالنفقات الجبائية في الدول المتقدمة بشكل كبير في معرفة الوضعية الحقيقية لنظام الامتيازات والتشجيعات الجبائية، فمجموعة من هذه الامتيازات قد تفقد أو لا تجد مبررا وتفسيرا عمليا لوجودها، وبالتالي تصبح مسألة التخلي عنها وتجاوزها أمرا ضروريا. وقد أصبحت هذه التقارير تلعب دورا أساسيا في قرار السياسة الجبائية لهذه الدول، حيث إن تحليلها يساعد على معرفة أهمية الإجراءات الجبائية وقيمتها، وبالتالي تبريرات وجودها.
فدراسة هذه التقارير ساهمت -مثلا- بفنلندا في التعرف على نقائص نظامها التشجيعي، والوقوف على عدم جدوى بعض الإجراءات الجبائية التشجيعية، وتم التخلي عن هذه الإجراءات بموجب إصلاحي 1989 و1993. كما أن الحكومة البريطانية تنشر التقرير السنوي حول النفقات الجبائية شهورا قبل نشر الميزانية، وذلك للمساعدة على معرفة سلبيات بعض الإجراءات الجبائية وإدخال التعديلات الملاءمة. إذن، أصبحت دراسة النفقات الجبائية تشكل أهمية كبرى في الدول المتقدمة، سواء على صعيد معرفة نقائص نظام التشجيعات الجبائية أو باعتبارها وسيلة لإعلام البرلمان والرأي العام بكافة هذه الإجراءات. أما في المغرب، فمن خلال هذه التقارير يمكن استنتاج كيف أن العديد من الامتيازات الجبائية لا تستند إلى مرجعية حقيقية، وأن الاحتفاظ بها كان يرجع فقط إلى غياب دراسات دورية تستطيع الوقوف على عدم جدواها. وبالتالي فقد أصبح بإمكان السلطات المسؤولة التخلي عن هذه الامتيازات؛ الشيء الذي سيساعد على تطوير سياسة التدخل الجبائي، وفي نفس الوقت الرفع من قيمة المداخيل الجبائية.
ب- إبراز صعوبات السياسة الجبائية وتقييمها: استطاعت دراسة النفقات الجبائية إبراز الصعوبات والعراقيل التي تعترض النظم الجبائية في الدول الصناعية، وشكلت هذه الخلاصات نقطة انطلاق لدراسة السياسة الجبائية وتوجيهها بشكل أكثر فائدة؛ فمثلا في إسبانيا أصبح تقرير النفقات الجبائية يساهم منذ سنة 1979 في إنجاز أهم التغييرات في السياسة الجبائية لهذا البلد، كما ساعد على تقليص نسبة الخسارة المالية وعقلنة نظام التشجيعات الجبائية؛ كما أن هذه الدراسات لعبت دورا مهما في إنجاز الإصلاحات الجبائية التي عرفتها (الولايات المتحدة الأمريكية، فنلندا، بريطانيا، البرتغال،…).
إذن نفس الشيء يمكن أن يحدث بالمغرب، فمعطيات وخلاصات هذه التقارير، إذا ما تم التعامل معها بموضوعية، ستساهم حتما في تحديد إيجابيات وسلبيات السياسة الجبائية بشكل عام؛ وتحليلـُها سيساعد على مقارنة الأهداف المنشودة مع تكلفتها المالية والنتائج المحققة، وبالتالي سيمكن من إنجاز إصلاحات جادة وهادفة تستجيب لتحديات الظرفية الاقتصادية التي يعرفها المغرب.
وكخلاصة، فقد حاولنا من خلال هذا المقال إبراز بعض الملاحظات حول استراتيجية السياسة الجبائية الجديدة التي أصبحت تفرضها المرحلة الحالية لبلادنا والتي ستساهم في تخطي التحديات المطلوبة مواجهتها. لا نقول إنها دروس يجب تبنيها، ولكنها أفكار وملاحظات قابلة للنقاش ومساهمة في إغناء النقاش الدائر في بلادنا والذي حاولت المناظرة الوطنية الثانية حول الإصلاح الضريبي تفعيله. وحتى لا نفوت الفرصة مرة أخرى فقد حان الوقت لتجاوز السياسة المعتمدة، وذلك بنهج تفكير جديد يقوم على توجهات ومبادئ جديدة هي القادرة على إدماج السياسة الجبائية في عملية التنمية المنشودة للتوجه ببلادنا نحو مستقبل أفضل.


حميد النهري

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا