Saturday, June 15, 2013

دراسة في القانون: إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب (الحلقة الثانية)

عرفت الساحة الثقافية مؤخرا ميلاد كتاب جديد ازدانت به المكتبة القانونية المغربية، ويتعلق الأمر بأطروحة دكتوراه في القانون تحت عنوان «إستراتيجية تنمية العدالة في المغرب، اختار لها كاتبها موضوعا رائدا استعاض فيه عن مقاربة إصلاح القضاء التي تبقى في نظره محدودة في الزمان والمكان، بمقاربة أكثر شمولية 
هي مقاربة «تنمية العدالة» التي لا يكون فيها إصلاح القضاء هدفا في حد ذاته، وإنما مجرد وسيلة لتحقيق هدف أسمى
 ألا وهو تحقيق التنمية البشرية مأخوذة من زاوية العدالة، المؤسسة والقيمة الفلسفية.

يقدم البحث التنموي الذي انطلق في خمسينات القرن الماضي فرصة لا تقدر بثمن لفهم إشكالية التخلف والتنمية في كثير من دول العالم وبخاصة في دول العالم الثالث. وتأتي أهمية البحث التنموي أو ما يطلق عليه بدراسات التنمية من تنوع مشارب وآفاق الباحثين التنمويين بحيث نجد من بينهم علماء اقتصاد وعلماء اجتماع وعلماء اللسانيات والبيئة والأنتربولوجيا والعلاقات الدولية.... إلخ. هذا التنوع في المنطلقات الفكرية والعلمية وكذا في الاهتمامات عكس تنوعا كبيرا في المناهج التحليلية والمقاربات والأدوات المفاهيمية المستعملة، كما أنه عكس تنوعا آخر في الحلول المقترحة والإستراتيجيات المنصوح بها للخروج من حالة التخلف ومعانقة التنمية. أهمية دراسات التنمية تأتي كذلك من أن هذه الدراسات لم تكن دراسات نظرية مجردة في كليتها وإنما كانت في جزء كبير منها دراسات ميدانية تعتمد في تحليلاتها المعطيات الواقعية الخاصة بالمجتمعات والمنظمات والمؤسسات موضوع الدراسة. مقاربة تنمية العدالة، هنا كذلك، تتيح لنا إمكانية الاستفادة من هذا الكم المعرفي الهائل الذي تمثله دراسات التنمية لا من حيث الأدوات التي تستخدمها في تحليلاتها ولا من حيث مضامينها وخاصة ما تعلق منها بالدور الذي يجب أن تضطلع به المؤسسات في التنمية، وذلك بغية توظيف هذه المعارف والأدوات في تنمية العدالة فكرة وتشريعا وممارسة بالمغرب، وفي إعطائها قيمة مضافة تؤهلها لأن تكون في مستوى التحديات الداخلية والخارجية. 
مقاربة تنمية العدالة من ناحية أخرى تقدم ميزة أساسية تتمثل في أنها تساعد على تخطي الحدود المرسومة للحقول المعرفية المختلفة من قانون واقتصاد وإيكولوجيا وعلم اجتماع وأنتربولوجيا إلى غير ذلك من حقول المعرفة بحيث تذوب فيها الفوارق القائمة بين هذه الحقول وتتحول في إطارها الخلافات القائمة بين الباحثين المنتسبين إلى هذه الميادين إلى وسيلة للتطور والارتقاء وأداة للثراء المعرفي عبر مقارعة الادعاء بالادعاء المضاد. 
لا ينبغي أن يفهم من ذلك أن مقاربة تنمية العدالة موجهة فقط إلى طائفة الباحثين. فهذه المقاربة على النقيض من ذلك موجهة إلى جميع المغاربة أفرادا وجماعات، مجتمعا مدنيا وهيآت على اعتبار أن العدالة هي قيمة اجتماعية شكلت أحد مرتكزات ديننا الحنيف وكذا قوانيننا المختلفة،  وبالتالي يجب أن تكون نبراسا لجميع مبادراتنا وسياساتنا، كما أن التنمية ليست قضية السلطات العامة أو قضية فئة معينة من المغاربة فقط وإنما هي قضية كل مغربي بحيث تقوم في جانبه مسؤولية الانخراط الفعلي في مسلسلها والإسهام البناء في نجاحها، ويثبت له في الوقت نفسه حق الاستفادة من ثمارها.  
حسنة أخرى من حسنات مقاربة تنمية العدالة هي أنها تجسد الترابط القائم بين فكرة العدالة من جهة ومؤسسة العدالة من جهة ثانية، وبين فكرة التنمية من جهة ثالثة. ذلك أن فكرة العدالة هي النبراس الذي ينبغي أن يستنير به كل عمل تنموي بحيث تكون الغاية الأولى والأخيرة للتنمية هي تحقيق العدالة في أسمى صورها وهي تكريم الإنسان من خلال ليس فقط الاعتراف له بالحقوق المرتبطة بشخصه الإنساني وإنما كذلك عبر تمكينه من الآليات والأدوات المادية وغيرها التي تسمح له بالممارسة الفعلية لتلك الحقوق وإزالة جميع الحواجز التي تعيق تلك الممارسة سواء تعلق الأمر بالأمية أو الفقر أو المرض أو الإقصاء. كما أن التنمية هي أساسية لتمظهر فكرة العدالة وتجسيدها على أرض الواقع ما دامت توفر تلك الآليات والأدوات التي تحدثنا عنها أعلاه ومن ضمنها توفير عدالة قريبة، مستقلة ومحايدة وبتكاليف مناسبة.
إعمال مقاربة تنمية العدالة بشكل هادف بناء و مثمر يقتضي منا أولا وقبل كل شيء أن نفهم المقصود بالتنمية وأن نتعرف على الميكانيزمات التي تخدم من خلالها التنمية العدالة. فقد ثبت للكثير من الباحثين أن أحد أسباب استمرار التخلف في كثير من الدول يرجع إلي جهلها بماهية التنمية وعجزها بالتالي عن وضع السياسات المناسبة للخروج من دائرة التخلف. و لذلك كان من الضروري في اعتقادي محاولة البحث في مفهوم التنمية، في أدواتها و ميكانيزماتها، في النظريات التي تقترحها وإستراتيجيات العمل المتفرعة عنها كخطوة أولى تليها خطوة ثانية تتمثل في توظيف المعارف المحصل عليها من محاولة البحث المذكورة في تنمية العدالة.
ألهمت أبحاث Sen  المفكران  AmartyaوNussbaum Martha في مجال التنمية البشرية الكثير من الباحثين وصناع القرار في المنظمات والهيآت الدولية التي تعنى بصفة مباشرة أو غير مباشرة بمسألة التنمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة الأمم المتحدة بجميع هيئاتها، وكذا في دول العالم في علاقتها مع بعضها البعض، فأصبحت هذه المنظمات والدول تركز أكثر على التنمية البشرية. ولا أدل على ذلك من أن البنك الدولي جعل من الألفية الحالية ألفية مكافحة الفقر في العالم. وقد لقيت هذه المبادئ صدى كبيرا في المغرب عكسته المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي أعلن عنها صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة ذكرى 20 غشت 2003. جاء في خطاب جلالته  « ...علينا أن نجعل من هذه الذكرى الذهبية للاستقلال، وقفة تاريخية لتقييم الأشواط التي قطعتها بلادنا على درب التنمية البشرية، خلال نصف قرن، بنجاحاتها وصعوباتها وطموحاتها، مستخلصين العبر من اختيارات هذه المرحلة التاريخية والمنعطفات الكبرى، التي ميزتها، مستهدفين من ذلك ترسيخ توجهاتنا المستقبلية، على المدى البعيد بكل ثقة ووضوح، مبرزين بكل تجرد وإنصاف، الجهود الجبارة، التي بذلت لوضع المغرب على سكة بناء الدولة الحديثة. وتلكم خير وفاء للذكرى الخالدة لصانعي استقلال الوطن».

بقلم: رشيد صادوق, مستشار بمحكمة النقض

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا