Sunday, September 08, 2013

دراسة في القانون: رقابة القضاء على أعمال هيآت النوظمة (الحلقة الأولى)

تعرف هيآت النوظمة أو هيآت الحكامة الجيدة والتقنين بأنها هيآت إدارية تعمل أو تتصرف باسم الدولة
 وتتمتع بسلطات حقيقية بدون خضوعها لسلطة الحكومة.

تختص هذه الهيآت بتنظيم وضبط قطاعات إستراتيجية اقتصادية ومالية. وبحكم ممارستها لسلطات ضبطية وتنظيمية،فهي تسعى للوساطة والتحكيم، والفصل بين المصالح المتنازعة، وكذا وضع إطار قانوني وأخلاقي ملزم مؤطر للعمل المهني والتجاري والحقوقي، لكافة المدارين في مجالات المنافسة والقيم المنقولة ،والإعلام والاتصال. ويعرف التشريع المغربي عدة هيآت ناظمة أساسية ومهمة من بينها مجلس المنافسة، الهيئة المغربية لسوق الرساميل، المجلس الأعلى للاتصال السمعي – البصري ،لوكالة الوطنية لتقنين المواصلات..
ويرجع الفضل في اختيار مصطلح هيآت النوظمة للفقيه المقتدر محمد علمي مشيشي بمناسبة إحداث منتدى النوظمة بكلية الحقوق بفاس والذي اعتبر أن المصطلح قادرا على استيعاب أدوار واختصاصات الهيآت المختلفة والتي تجمع بين التنظيم والضبط والرقابة والتحكيم والفصل في المنازعات ،هذا رغم أن الدستور المغربي انتصر في الأخير لمصطلح «هيآت الحكامة الجيدة والتقنين» ،لكن هذا الاختلاف لا يؤثر في طبيعة الهيآت وسلطاتها.
إن تنوع مجالات عمل هذه الهيآت، يبين بشكل جلي ملامح الاتجاه نحو  إعادة صياغة وظيفة الدولة ،وإعادة تحديد أدوارها ووسائل تدخلها، في عدد من القطاعات الاقتصادية والمالية، لتخفيف عبء تدخلها الاقتصادي المباشر، ولتكريس سياسة الانفتاح الليبرالي، والعزوف عن سياسة الاحتكار، واستبدال أسلوب الإدارة المباشرة للمرافق والخدمات العمومية، بأساليب جديدة تقوم على تفويض مهام الضبط والتقنين والتأطير لهيآت ناظمة جديدة، مما يعكس وجود نهضة حقوقية تشريعية قوية ورائدة، هي نتاج التحرر الاقتصادي والقانوني، تراعي تبني النظم الحديثة شبه القضائية  كفضاء لتسوية بعض المنازعات، ومساعدة الأطراف المهتمة في عملها كشرط ضروري لصحة وفعالية النظام.
فالتطور الكمي والنوعي لهيآت النوظمة،يعني وجود ربط جديد بين الاقتصاد والقانون،ويفسر الاتجاه الحديث نحو نوظمة الدولة وأفول الوزارات ذات الصلة بنشاط الهيآت الحالة محلها والممارسة لجميع صلاحياتها،بحيث دخلت الهيآت الناظمة قطاعات الاقتصاد والمال والأعمال والتأمين والبنوك وحتى المجال الجنائي الشديد الحساسية والمعتبر من النظام العام لم يسلم من هذا التوجه من خلال وحدة معالجة المعلومات المالية .
وقد قارن مقرر مشروع قانون  Jean Foyer الفرنسي،هذه الهيآت بشبيهاتها الأنجلوساكسونية،من حيث كونها تأخذ بعض أشكالها أو مظاهرها من ناحية التنظيم ،من المحاكم وتتمتع بنظام يضمن لها استقلالا حقيقيا.
ولاشك أن الأمر يتعلق بمؤسسات تنتفي عنها الصبغة القضائية، تساهم في حماية حقوق المواطنين والفاعلين الاقتصاديين والمدارين بشكل عام، وتسهر على قانونية سير المؤسسات العامة والخاصة.
وبالنظر لتخصص هذه الهيآت واستقلاليتها، فهي تبدو كإطار قانوني وتنظيمي فعال، قادر على ضمان تنظيم جيد ،وضبط اجتماعي واقتصادي ومالي محكم ،يكفل التنظيم والتأطير لقطاعات كثيرة، بما يسمح باحترام التوازن بين المصالح، وإيجاد صيغ التوافق بين حقوق المواطنين والمصلحة العامة.
ومما لا مراء فيه أن هيآت النوظمة ، خلقت من رحم معاناة المواطنين والفاعلين الاقتصاديين والماليين، من البيروقراطية الإدارية والانتظارية، وتمركز القرار، وغياب الشفافية وقوة المبادرة، لتعلن نفسها كبديل للإدارة أو المحاكم،أو على الأقل كمنافس حقيقي لهما، اقتطعت جزءا كبيرا من صلاحياتهما الإدارية والتنظيمية،والضبطية والزجرية، لكن هذا الإقصاء أو الإبعاد، المرافق لنظرية الحلول، فرض نوعا من المواءمات التشريعية، التي تتلاءم مع طبيعتها المزدوجة الإدارية، وشبه القضائية، سواء على مستوى بنيتها وتشكيلها وهياكلها ،وضمانات الاستقلالية والحياد أو على مستوى مهامها واختصاصاتها، وضمانات الفعالية، وحجية الشيء المقضي به .
وهكذا تم تمكين هذه الهيآت،من سلطات وصلاحيات واسعة، تأخذ مظاهر وأشكال متعددة، تقتسم بموجبها مع الإدارة والقضاء ،فضاء التنظيم والتشريع،والزجر والعقاب، متسلحة بدعم ومؤازرة الفاعلين في الميدان، لأنها ليست نتاج القانون الدولتي فقط، بل نتاج قانون رضائي اتفاقي من صنع أصحاب القرار حاكمين ومحكومين، والمؤطرين بضوابط أخلاقية وتنظيمية، أسهموا جميعا في صياغتها، وتوافقوا عليها، بإجماع بينهم، لأنها تشكل محصلة قواعد المهنة وأصولها.
وللإحاطة بالأسئلة التي فرضها النسق الجديد،الذي أدخلته هيآت النوظمة على الأنساق الإدارية والقضائية على التشريع المغربي، نستعرض في هذا التقديم لمحة مختصرة ودقيقة،عن ماهية النوظمة، وعلاقة القضاء بهيآت النوظمة، وأهمية موضوع البحث ،ودواعي اختياره، وإشكاليات الموضوع، وأخيرا خطة البحث.
أولا:ماهية النوظمة
اعتبر جون جاك شوفاليي هيآت النوظمة، بكونها هيآت تملك سلطات، ووسائل للعمل القانوني من أجل أداء المهام المنوطة بها، وظيفتها يطلق عليها «النوظمة»، تهدف إلى ضبط تطوير مجالات الحياة الاجتماعية، من خلال الحرص على تأسيس قواعد لعب معينة، والحفاظ على بعض التوازنات. هذه الوظيفة تبرر الجمع بين الاختصاصات القانونية،»سلطة وضع قواعد عامة، أو المشاركة في إعدادها، وسلطة إصدار قرارات فردية ، وسلطة المراقبة والرقابة»، تتمتع بالشخصية المعنوية، وتدخل في بنية الدولة التي تتصرف باسمها.
هذه الهيآت تتمركز خارج الهرم البرلماني، وليست لها الصفة القضائية، يجب أن تعتبر كأنها نابعة من شكل قاعدي للسلطات الإدارية، خاضعة لرقابة القاضي الإداري، لكن ضمانات الاستقلالية العضوية والوظيفية التي تستفيد منها، تجعلها تحتل مكانا داخل فضاء الإدارة، تنفلت من أي تبعية رئاسية أو وصاية، فهي تشكل سلطات معزولة، تتمركز خارج المشهد، وتتمتع بسلطات رسمية للتصرف أو اتخاذ القرار المستقل «.
فالنوظمة في المعنى الاصطلاحي  تجمع بين مفاهيم تشكل في الحقيقة ترجمة للأدوار المكلفة بها هذه الهيآت، وهي التنظيم والتقنين والرقابة والضبط، بحيث أن كل مصطلح من المصطلحات الأخيرة ظل عاجزا، وقاصرا عن تبيان الدور الوظيفي للهيآت الناظمة، ولعل هذا ما جعل القانون رقم 24-96 المتعلق بالبريد والمواصلات يفضل مصطلح «تقنين»مع شعوره بصعوبة هذا الاختيار ودقته، حينما اعتبر أن وظيفة الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات،هي التقنين والمراقبة والتحكيم، وهو ما حصل بعده للدستور الجديد الذي أطلق عليها وصف «هيآت الحكامة الجيدة والتقنين»( الفصل 165 وما بعده).

بقلم:    محمد الهيني, مستشار  بالمحكمة الإدارية بالرباط
جريدة الصباح الأربعاء, 04 سبتمبر 2013

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا