Tuesday, December 17, 2013

دراسة في القانون: نظام بيع العقار في طور الإنجاز عديم الفعالية (1/3)


بقلم:  الدكتور محمد الباكير, أستاذ بكلية الحقوق بالدارالبيضاء
جريدة الصباح الأربعاء, 13 نوفمبر
عندما صدر القانون رقم 00-44 المتعلق ببيع العقارات في طور الإنجاز، استبشر المهنيون، و في مقدمتهم رجال القانون، خيرا بما جاء فيه من مستجدات. ذلك أن المشرع قد سعى فيه، على ما بدا للجميع، إلى وضع إطار قانوني هام للمعاملات والعقود المبرمة بشأن العقارات التي مازالت في طور الإنجاز، قادر على توفير الحماية اللازمة لمصالح المستهلكين، سواء من خلال تجاوز سلبيات العقود المعروفة بتسمية «الوعد بالبيع»، أو من خلال تمكين المشترين من ضمانات معقولة مقابل ما يدفعونه من أموال.


لعل أهم هذه الضمانات وأبرزها تتمثل في ذلك النظام الذي وضعه المشرع بخصوص عملية إبرام عقد البيع الابتدائي، سواء من حيث شكلياته، أو زمنه، أو الالتزامات المفروضة على رب المشروع قبل الشروع في إبرام العقود، أو تلك التي تقع على عاتقه بعد إبرامها. فهذا النظام إذا كان يرمي كما هو حال أنظمة كافة أنواع العقود، إلى ضبط التزامات الأطراف وضمان حقوقهم خلال التنفيذ، وحماية مصالحهم المشروعة عند وقوع إخلالات في تنفيذ تلك الالتزامات، فإن الهاجس الرئيسي وراءه كان هو حماية أموال المستهلكين من الاستغلال من قبل المنعشين العقاريين، الذين يقومون بتحصيلها تحت غطاء اتفاقي لاستعمالها في تمويل مشروعاتهم المختلفة، دون عناية بمصالح دافعي هذه الأموال، أو مع الإضرار البالغ بها.
فمن بين الممارسات المشينة التي كان ولا يزال عدد كبير من المنعشين العقاريين يقومون بها، أنهم يبرمون وعودا بالبيع مع المستهلكين قبل الشروع في أشغال البناء بواسطة عقود عرفية عموما، مع التعهد بتسليم العقارات في آجال معينة، لكن دون إعطاء أي ضمانات ما عدا عقد الوعد نفسه وما يتضمنه من شروط جزائية هزيلة، ثم يستغلون تلك الأموال في تغذية أنشطتهم المختلفة. فإذا استطاعوا إتمام البناء في الأجل المتفق عليه، وهو أمر نادر الوقوع، كان به، وإلا فإنهم يماطلون ويسوفون، ولا يكون أمام المستهلك سوى الانتظار مع وعد بتعويض ضعيف، أو سلوك المساطر القضائية التي لا تخرج عن سبيلين: إما دعوى إتمام البيع، وإما الفسخ مع تعويضات لا تتناسب مع حجم الضرر الذي لحق بهم.  وفي جميع الأحوال يظل المنعش العقاري المستفيد الأكبر، لأنه يحتفظ بالأموال التي اختلسها من المشترين لأطول مدة ممكنة ضمن أصوله النقدية ويستخلص منها أكبر نفع ممكن و فوائد أهم من أن تتأثر بالتعويضات التي قد يدفعها إلى زبنائه.
لذلك نجد أن التشريع الخاص بالعقارات في طور الإنجاز فرض صب المعاملات المتعلقة بها في قالب عقد ذي شكليات وشروط دقيقة، يضمنها تدخل محرر للعقود تتوفر فيه الأهلية اللازمة، وذلك لتحديد الالتزامات الواقعة على الأطراف بشكل ينفي عنها اللبس ويعزز الحماية المقررة للحقوق المترتبة عن العقد. غير أن الأمر لم يقف عند تحديد الشروط الشكلية للمحرر الحامل للاتفاق، بل تعداه إلى رسم إطار مفاهيمي، وزمني، وإجرائي متميز.
فمن جهة أولى، ورغبة في قطع طريق التحايل، جعل المشرع من صفة «بيع عقار في طور الإنجاز» تكييفا قانونيا يلتصق بكل اتفاق يتضمن التزاما من أحد الطرفين بإنجاز عقار داخل أجل محدد مقابل التزام الطرف الآخر بأداء الثمن تبعا لتقدم الأشغال. وبالتالي، فإن نظام بيع العقار في طور الإنجاز يفرض نفسه على الأطراف كلما تضمن اتفاقهم الالتزامات المذكورة، حتى ولو فضلوا تسميته وعدا بالبيع أو أي اسم آخر.
 من جهة أخرى، وضع القانون المذكور لإبرام العقد الرامي إلى بيع عقار مازال في طور الإنجاز عتبة زمنية، تتحدد بتاريخ الانتهاء من أشغال الأساسات على مستوى الطابق الأرضي، والغاية من هذا التحديد الزمني تجنيب المستهلك فخاخ النصب وإرغام المنعشين على التحلي بقدر أدنى من الجدية عبر إجباره على مباشرة الأشغال والاستمرار فيها إلى النهاية. ويبقى من المفيد أن ننبه إلى أن الفصل 5-618 من قانون الالتزامات والعقود الذي نص على ذلك، حتى وإن لم يعتن بتوضيح مصير الاتفاقات المبرمة قبل الانتهاء من أساسات الطابق الأرضي، فإنه عندما أكد على أنه لا يمكن إبرام العقد الابتدائي قبل ذلك التاريخ، يكون قد وضع مانعا قانونيا أساسيا يجعل قيام هذا العقد أمرا مستحيلا استحالة قانونية. ومن تم فإن كل اتفاق يتم دون احترام الحد الزمني المذكور يكون باطلا بطلانا مطلقا ولا يسوغ التمسك به.
بل إنه قد يكون من الممكن مساءلة محرر العقد لتعويض الضرر اللاحق بالطرف حسن النية إذا حرر العقد دون مراعاة المانع المذكور أو دون التأكد من ارتفاعه. وهو ما يفسر وجوب إرفاق العقد بشهادة مسلمة من قبل المهندس المختص تثبت الانتهاء من أشغال الأساسات الأرضية للعقار، طبقا لآخر فقرة من الفصل 4-618 من قانون الالتزامات والعقود.  
ومن جهة ثالثة، نجد أن التأطير التشريعي امتد إلى فرض عدد من الالتزامات الوقائية –إذا صح التعبير- الكفيلة يضمان جدية المنعش العقاري و حماية أموال الزبناء. فقد أوجب القانون على البائع أن يضع دفترا للتحملات يتعلق بالبناء ويتضمن مكونات المشروع وما أعد له ونوع الخدمات والتجهيزات التي يتوجب إنجازها وأجل الإنجاز والتسليم، وأن يودع هذا الدفتر مع التصاميم و مع نظام الملكية المشتركة (إذا تعلق الأمر بسكن مخصص للملكية المشتركة) بالمحافظة العقارية إذا كان العقار محفظا، وإلا فبكتابة ضبط المحكمة الابتدائية المختصة، وذلك لتمكين العموم من الاطلاع على كافة المعلومات والمعطيات الخاصة بالعقار، وتقليص إمكانيات تلاعب البائعين سيئي النية. ثم إنه لم يقف عند ذلك، إذ جعل هذه الوثائق جزءا من العقد، فأوجب إلحاق نسخ مطابقة للأصل منها بالعقد، كما فرض أن يتم توقيعها من قبل البائع والمشتري معا، وأن تسلم إلى المشتري نسخة منها مشهود بمطابقتها للأصل وبصحة إمضائه عليها.
هذه الالتزامات تعزز جدية المنعش العقاري وحسن تنفيذه لشروط البيع، من ناحية، وتمنح للمشتري ضمانات إضافية بشأن استجماع العقار لكافة المواصفات التي كانت وراء سعيه لتملكه، من ناحية أخرى.



No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا