Thursday, September 03, 2015

التدخل العسكري لحلف شمال الاطلسي في الوطن العربي



أ/ عبد الكريم باسماعيل
أستاذ مساعد. كلية الحقوق والعلوم السياسية
جامعة قاصدي مرباح ورقلة  (الجزائر)
الملخص :
 بعد انتهاء الحرب الباردة ازداد نشاط حلف شمال الأطلسي في الوطن العربي بشكل واضح ، سواء عمليات الشراكة والحوار الاستراتيجي أو عمليات التدخل العسكري موضوع البحث. شكل تحول المفاهيم الإستراتيجية للعقيدة العسكرية للحلف عام 1991 و عام 2010 الأثر البالغ في صياغة أطر وسياسات جديدة ، تختلف عن الأهداف التي أنشأ من أجلها الحلف سنة 1949 و عما كان عليه الحال زمن الصراع مع الاتحاد السوفييتي ، وهو ما اتضح جليا في حالتي العراق وليبيا.  
abstract :
At the end of the cold war has increased NATO activity in the Arab world clearly, both of partnership and strategic dialogue or military interventions in question. Form of turning concepts of strategic military doctrine of NATO in 1991 and in 2010 the effect of the formulation of frameworks and new policies, different from the goals established for which the alliance in 1949 and what it was like the time of the conflict with the Soviet Union, which was made clear in the cases of Iraq and Libya.
مقدمة:
لا يختلف اثنان عن الأهمية الإستراتيجية التي يتميز بها الوطن العربي، ففي هذه المنطقة تلتقي مجموعة من المتغيرات الديناميكية التي تقود إلى لعب مجموعة من الأدوار في المنطقة. سواء كانت هذه الأدوار من قوى إقليمية أو من قوى دوليه فقد شهدت تنوعا  بين دبلوماسية وإستراتيجيه، بين مساعدات أو عقوبات اقتصاديهو بين مساعدات لوجستية أو تدخل عسكري مباشر حيث يعتبر هذا الأخير من بين أهم السياسات التي مارستها القوى الأجنبية تجاه العالم العربي لأسباب ودوافع مختلفة.
جاء هذه البحث لدراسة حالات مختلفة من سياسات التدخل الأطلسي في المنطقة العربية ومن ثم تهدف إلى دراسة فوارق وخصوصيات كل حالة على حدا ، ما يسمح بتحديد أسباب الظاهرة وأنماطها وأشكالها و إذا ما كانت عملية حتمية لمخرجات النظام الدولي أو تعود مرجعيتها لقوة الدول. ومن جهة أخرى تتساءل هذه الورقة عن مستقبل الظاهرة موضوع البحث.
لقد كان لتأسيس "منظمة معاهدة شمال الأطلسي"NORTH ATLANTIC ORGANISATION TREATYأو ما يعرف بحلف الناتو في أفريل 1949 الأثر البالغ في تعميق سياسة الاحتواء التي كانت ترمي إليها القوى الغربية لتقويض بؤر انتشار الأفكار الاشتراكية والحدود الإيديولوجية للاتحاد السوفييتي  و مع أن هذا الحلف كان من ابرز معالم الحرب الباردة إلا انه استطاع أن يثبت بقائهوأن يتكيف مع متغيرات مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
إن هذا التكييف الاستراتيجي للحلف يعتبر دفعا قويا  باتجاه استمرار السياسة الغربية في ممارسة القوة أو التهديد بتوظيف القوة العسكرية تجاه كل من يقول " لا " في وجه الأهداف الغربية. و هو ما حدث فعلا حيث تم تفعيل الآلة العسكرية لحلف شمال الأطلسي لوقف المجازر التي ارتكبها الصرب بحق البوسنة والهرسك في البلقان غداة تفكك يوغسلافيا. أما في المنطقة العربية موضوع البحث فقد وظف الحلف الأطلسي قوته العسكرية تجاه دولتين هما العراق وليبيا تحت طائلة دواعي النظام الجديد والتدخل لأغراض إنسانية.
إن هذه الورقة البحثية تتساءل  عن أسس ومحددات وإستراتيجيات التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي في كل من العراق وليبيا مع محاولة استشراف آفاق العمل العسكري للحلف في الوطن العربي (الأزمة السورية)، ومن ثم فان دراسة طبيعة سياسة حلف شمال الأطلسي تجاه العراق ولبيا يدفعنا إلى طرح الأسئلة التالية: فيما تتمثل المنطلقات الإستراتيجية ؟ ما هي الدوافع ؟ ما هي الآليات ؟ إلى أي مدى يمكن أن تتطور فيه سياسة الحلف مستقبلا في المنطقة ؟ مما سبق تقتضي الأدبيات المنهجية للبحث أن يتم تحليل العناصر التالية:
1-   الإطار المفهومي والنظري للتدخل العسكري.
2-   الأبعاد الإستراتيجية للتدخل العسكري في العراق وليبيا.
3-  دراسة مقارنة للتدخل العسكري .
4-    خاتمه .
أولا : الإطار المفهومي والنظري للتدخل العسكري:   
جاء التراث النظري لظاهرة التدخل العسكري بعديد الصيغ المفهومية التي تتطلب من الدارسين الكثير من الاهتمام والإلمام. في هذا الصدد نعمد إلى عرض مجموعة من التعاريف بغية الوصول إلى مفهوم التدخل العسكري:
عرف جوزيف ناي التدخل :"بأنه ممارسات خارجية تؤثر في الشؤون الداخلية لدولة أخرى ذات سيادة. أما التدخل العسكري فهو توظيف القوة للتأثير في الشؤون الداخلية لدولة ما. أما ماكس بيلوف فعرف التدخل بأنه: محاولة من طرف دولة واحدة التأثير في التركيبة الداخلية والسلوك الخارجي لدولة واحدة باستخدام درجات متباينة من القمع كنتيجة منطقية للطبيعة الفوضوية للنظام الدولي، فقد يتخذ التدخل شكل الحرب أو الحصار الاقتصادي أو الضغوط الدبلوماسية أو الدعائية  ويكون التدخل العسكري آخر خيار لأنه ليس بالعمل الأكثر عقلانية1. يتضح من هذين التعريفين التمييز والتدقيق بين مختلف أعمال التدخل العسكرية وغير العسكرية.
يقدم مارتن وايت تعريفا يميز فيه بين التدخل والحرب باعتبارهما عملين مختلفين "يعد التدخل عملا مباشرا وعنيفا على مستوى العلاقات الدولية، لكنه لا يصل إلى درجة الحرب المعلنة بين دولتين أو أكثر لان الحرب هي المرحلة القصوى في هذا التفاعل" وبهذا يكون التدخل سلوكا يعتمد على التهديد باستعمال القوة إن لم يستخدمها فعلا. كما يعرف التدخل كذلك بأنه " عمل يتضمن التغلغل أو الانخراط عسكريا في شؤون دولة أخرى"2.أما إسماعيل صبري مقلد فقد قدم شكلين لتدخل هما التدخل الدفاعي والتدخل الهجومي.
التدخل الدفاعي:يهدف إلى منع إحداث تغيير في توازن القوى الموجودة لأنه يضر بمصالح الدولة المتدخلة.
التدخل الهجومي: الذي يقوم بإحداث تغير في توازن القوى الموجودة وإحداث تغيير في نظام حكم الدولة المستهدفة، بطريقة تضمن أكبر قدر ممكن من النتائج الإيجابية للدولة المتدخلة3. و يعرف ر.ج. فيسنت التدخل بأنه:" الأعمال التي تقوم بها دولة ما، أو مجموعة في إطار دولة ما، أو مجموعة من دول، أو منظمة دولية تقوم بالتدخل بشكل قسري في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، وهذا التدخل هو عمل منفرد له بداية ونهاية وهو موجه ضد الكيان السلطوي للدولة المستهدفة بالتدخل وليس بالضرورة أن يكون العمل قانونيا أو غير قانوني ولكنه ينتهك النموذج التقليدي للعلاقات الدولية4. أما ريتشارد ليتل فقد عرف التدخل بأنه استجابة وحدة سياسية خارجية لدافع تدخلي عند تأزم النزاع الداخلي في الدولة المتفككة، وهذا النزاع الداخلي هو السبب في تدخل طرف ثالث لتحويل مجرى النزاع عبر المساعدة الخارجية لمصلحة الحليف الداخلي، وعلى ذلك فان التفكك يعد أهم عنصر دافع للتدخل، لأنه دليل على عدم التجانس الاجتماعي والسياسي في الدولة، حيث يحاول كل طرف في النزاع الداخلي الاستعانة بآخر خارجي يسانده، فيؤدي ذلك إلى تحويل النزاع الداخلي إلى فراغ داخلي وخارجي و تأخذ هذه الاستجابة أشكالا متنوعة5. إن ما يظهر في هذا التعريف الأخير أن التدخل قد يكون متعدد الأشكال، وقد يكون التدخل لدوافع داخلية أو طلب من أطرف داخلية متصارعة من اجل قلب موازين القوى لصالح الدولة المتدخلة.
إن التدخل العسكري كإطار معرفي للتدخل الشامل، يعني-من خلال التعاريف السابقة- إرادة دولة أو منظمة دولية إحداث تغيير في المنظومة السياسية والمجتمعية لدولة أخرى بواسطة القوة الصلبة، ويكون هذا الفعل الدولي نابعا من إرادة خاصة أي (خارج الشرعية الدولية)، أو بمباركة من المجموعة الدولية وقد يكون بطلب من احد الأطراف الداخلية المتصارعة من اجل قلب موازين القوى الداخلية لصالحها.
إن هذا الطرح المعرفي للتدخل العسكري يحتم علينا التعرض للمضامين النظرية واستراتجيات التدخل في العلاقات الدولية، والتي تم تكييفها وفقا لمشروعية ظاهرة التدخل في العلاقات الدولية قبل وبعد انتهاء الحرب الباردة ودور منظمة الأمم المتحدة في إقرار الظاهرة6. فقد أصدرت هيئة الأمم المتحدة في هذا الصدد مجموعة من القرارات الحاسمة التي خولت للعديد من مظاهر التدخل الدولي في فترة مابعد الحرب الباردة، وذلك في مناطق اشتدت فيها حدة النزاع وتدهورت الظروف الإنسانية، أو مناطق تم فيها انتهاك السيادة الدولية، كما حدث في العراق و الصومال وهايتي وأخيرا في ليبيا.
إن ما سلف ذكره، يدفعنا للتمييز بين ثلاثة اتجاهات رئيسية في تبرير التدخل وهي على النحو التالي7:
1-اتجاه يجمع بين كل أنواع ممارسات التدخل الاقتصادية ، العسكرية والسياسية.
2-اتجاه يرى أن التدخل يقتصر فقط على استخدام القوة العسكرية.
3-اتجاه يرى أن التدخل مهما كان فهو عمل غير مبرر قانونيا، حيث يتعارض تماما مع مفهوم السيادة.
إن ما يهمنا في هذا البحث هو التركيز على منظمة حلف الناتو كمؤسسة دولية ذات سيادة مارست التدخل في فترة ما بعد الحرب الباردة، حيث يتم التساؤل عن تكييف الآليات الإستراتيجية لحلف الناتو بعد الحرب الباردة ليصبح آلة عسكرية مهمة للتدخل لأغراض إنسانية.
في هذا الصدد تم تطوير المقاربة الإستراتيجية لمنظمة حلف شمال الأطلسي حتى تكون ملائمة للواقع الجديد المنبثق عقب انتهاء الحرب الباردة. فبعد أن كانت هذه المنظمة الذراع الحديدية للمعسكر الغربي، جاء التساؤل عن جدوى استمراره بعد نهاية الصراع الإيديولوجي.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية اتجهت دول أوربا الغربية لإنشاء منظمة عسكرية مهمتها الدفاع عن أي تهديد لأمنها من المعسكر الشرقي، ومن ثم تم توقيع معاهدة شمال الأطلسي بين اثنا عشرة دولة في 4 أفريل 1949.8  لقد عرفت الأطر الإستراتيجية لحلف شمال الأطلسي تحولا بعد نهاية الحرب الباردة. بعد أن تشكل ب 12 دولة ليضم الآن 28 دولة. تنص المادة الخامسة من ميثاق المؤسس لمنظمة شمال الأطلسي على أن أي هجوم مسلح ضد أي من أعضاء الحلف يعد هجوما على دول الحلف كافة بما يتيح لها حق الدفاع عن النفس9 حيث توضح هذه المادة أن الحلف جاء لأهداف دفاعية، وتحتم عليه هذه الطبيعة أن يكون ذا واجبات دفاعية فقط، وفي الإقليم الجغرافي المحدد، أي أن الحلف بني على أساس إستراتيجية دفاعية. مما سبق توقع الكثير أن ينهار الحلف بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إلا أن متطلبات النظام الدولي الجديد فرضت عليه التكييف و إعادة تشكيل أولوياته، فقد تم تغيير هذه الإستراتيجية بطريقة عملية مباشرة في حرب الخليج الثانية أين قام الحلف بالهجوم على القوات العراقية الغازية للكويت وقام بتسديد ضربات عسكرية في عمق العراق في فترة دامت أكثر من أربعين يوما.
شهدت قمت الناتو المنعقدة في روما بعد الحرب في يوغسلافيا (سابقا) تبني قادت الحلف سياسة جديدة وهي التدخل في الأزمات بدلا من مراقبتها خصوصا في منطقة جنوب وشرق المتوسط. وفي هذا الإطار أصدر حلف الناتو مفهومين استراتيجيين سنة1999 و سنة 2010.
1-المفهوم الاستراتيجي الأول 1999: جاء هذا المفهوم لأجل توضيح الطبيعة الجديدة لمهام الحلف حيث تم التلميح إلى أن يبقى الحلف على أهبة الاستعداد للانخراط في مختلف العمليات العسكرية و اللوجيستيكية وإدارة الأزمات وذلك تحت طائلة القرارات الأممية10 وتشمل كذلك هذه المهمة للحلف عمليات حفظ السلام ومنع الانتشار النووي ومختلف الأنشطة الإنسانية سواء داخل أوربا أو خارجها.
2-المفهوم الاستراتيجي الثاني 2010 : انطلاقا من تطور الظروف الدولية اقتنع قادة الحلف بان البيئة الأمنية لم تعد تقتصر فقط على أراضي دول الناتو، خصوصا مع اضطلاعه بمسؤوليات جديدة لتامين إمدادات الطاقة في العالم. ومن ثم تقرر إقحام قوات الناتو في عديد المهام الدولية خارج القارة الأوروبية كما حدث في أفغانستان والمهام التي أسندت لقوات الإيساف11. 
ثانيا: الأبعاد الإستراتيجية لتدخل حلف شمال الأطلسي في العراق وليبيا:
لعبت المعطيات الإستراتيجية دورا كبيرا في اهتمام القوى الغربية بالمنطقة العربية العربية، فهذه المنطقة تتوسط العالم من الناحية الجغرافية وتتميز بوفرة في إمكانيات الطاقة، وهو ما يجعلها مهمة بالنسبة لقوى الاقتصاد العالمي. كما شكلت الأنظمة الاستبدادية استثناء في هذه المنطقة من خلال الحالة العراقية، السورية، الحالة اليمنية، الحالة الليبية، الحالة التونسية والحالة المصرية، ومن ثم لعبت كل هذه الأنظمة دورا فعالا في استقطاب التدخل سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
توضح كل المؤشرات الإحصائية أن الوطن العربي تتميز بإنتاج نفطي غزير، وباحتياطات ضخمة حيث توقعت وكالة الطاقة الدولية أن الاستهلاك العالمي للطاقة سيزداد بمعدل17% خلا الفترة من 2003 إلى 2030، ومن ثم مادامت الولايات المتحدة الأمريكية تستورد حوالي 60% من احتياجاتها النفطية من الخليج العربي فان هذه النسبة سترتفع إلى 62% بحلول2030 12. انطلاقا من هذا كان لزاما على الولايات المتحدة أن تقوم بضمان تدفق هذه المادة الحيوية بكل الوسائل كالأعمال العسكرية أو حماية الممرات المائية كمضيق هرمز. على مستوى المنطقة العربية ككل تشير التقديرات العالمية إلى أن الاحتياطي النفطي العالمي بلغ 1045.7 بليون برميل عام 1995 منها 645.3 بليون برميل أن سبة 61.7% في الأقطار العربية13. كما أكد التقرير السنوي للامين العام لمنظمة الأقطار العربية المصدرة للنفط أن احتياطي المنطقة العربية المؤكد من النفط الخام نهاية 2010 بلغت حوالي.66 مليار برميل وان احتياطي المؤكد من الغاز الطبيعي للفترة نفسها بلغت حوالي  54.8 ترليون متر مكعب14. هذا ما يجعل المنطقة العربية رهانا جيوسياسيا كبيرا بالنسبة لامتلاك الطاقة العالمية بنسبة 57% من احتياطي النفط العالمي. من هذا المنطلق يشكل التواجد في هذه المنطقة دفعا قويا للدول الكبرى لاحتلال  مراكز وادوار مهمة في النظام العالمي.
إضافة إلى عوامل الجيوسياسة المتمثلة في السيطرة على الطاقة الأحفورية والاستزادة من القوة ، تستغل القوى الكبرى وجود أنظمة غير ديمقراطية تتميز بالاستبداد وعدم الموالاة للولايا المتحدة في المنطقة العربية من اجل الانخراط في الشؤون الداخلية لهذه الدول بحجة المطالبة بمزيد من الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الحديث عن الديمقراطية والاستبداد في المنطقة العربية يدفع إلى البحث عن طبيعة النخب الحاكمة والتي ما إن تسيطر على السلطة إلا وتستأثر بالمراكز الحيوية داخل الدولة اعتمادا على السلطة الكولونيالية وفي الأنظمة الأقل سوء يلعب الإعلام والدول ومنظمات المجتمع المدني دورا هاما في هذه العملية15. لكن أكان الاستبداد لهذا السبب أو ذاك أو هاته الحجة أو تلك فان هذا المعطى يجعل من سياسة الإقصاء والغطرسة حقلا مهما لرفع الشعارات المطالبة بالتغيير والتحرر من هذه الأنظمة سواء كان ذالك عن طريق الصندوق الانتخابي أو الثورة أو التدخل الخارجي.
ثالثا: دراسة مقارنة لحالات تدخل الحلف الأطلسي :
شهدت المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج اهتماما أطلسيا واسعا، من خلال جملة المشاريع الإستراتيجية التي ساقتها القوى الكبرى تجاه المحيط الجيواستراتيجي. حيث مثلت العمليات العسكرية ظاهرة يمكن الوقوف عندها خصوصا ما قام به حلف شمال الأطلسي في العراق 1991 وفي ليبيا 2011 .
أ/ تدخل حلف الناتو في العراق:
جاءت العمليات العسكرية لحلف شمال الأطلسي سنة 1991 بعد قيام نظام الرئيس السابق صدام حسين المجيد  باحتلال الكويت في 02 أوت 1990، حيث شكل هذا العمل شرخا واضحا للشرعية الدولية بعد أن قدم مجموعة من المبررات تأتي معظمها في تاريخ العلاقات بين الدولتين كالحدود المتنازع عليها، وقضية ضم حقل الرميلة البترولي وكذلك التعويضات عن حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران16.  بعد وصول كل المحاولات الدبلوماسية إلى طريق مسدود قرر العراق غزو الكويت، وهو ما فتح الباب أمام اكبر عملية عسكرية في المنطقة بعد تصدع الاتحاد السوفيتي.
بدأ الحشد الدولي في الخليج بداية من أوت 1990 ، واستطاعت الو م أ أن تشكل تحلفا دوليا مكون من: 5 دول افريقية ، 9 دول عربية و14 دولة من دول الحلف. بدا الدور الأطلسي فعليا بعد صدور القرار ألأممي ( 678 )1990 الذي يخول في فقرته الخامسة استخدام دول التحالف جميع الوسائل اللازمة لتنفيذ القرارات السابقة للأمم المتحدة. فبالرغم من كون طبيعة العمل العسكري الجديد  جاء خارج نطاق عمل الحلف وضد أهدافه الإستراتيجية حيث أن مصدر التهديد الجديد جاء خارج أوربا ولم يكن صادرا من الاتحاد السوفييتي، إلا أنها جاءت في إطار تناقض مصالحه وبالتالي وجب التدخل لحماية هذه المصالح17.
لعبت الضغوط الأمريكية على فرنسا وايطاليا دورا مهما في موفقتهما على إرسال قوات جوية بحرية وبرية إلى الخليج للمشاركة في الحرب، وقررت ألمانيا عدم المشاركة مباشرة في العمليات العسكرية مقتصرة في ذلك على الدعم اللوجستيكي أما بريطاني فيعتبر دورها تقليديا كما جرت العادة في دعم الرأي والموقف الأمريكي.
أدى الدور الأطلسي في العراق سنة 1991 إلى إعادة صياغة إستراتيجية جديدة للحلف، حيث برز ذلك جليا في إعلان روما نوفمبر 1991 حول السلام والتعاون حيث أكد الإعلان على اختلاف طبيعة التهديدات والتحديات الأمنية. جاء في إعلان روما أن العقيدة العسكرية الجديدة للحلف تقوم على المبادئ التالية18:
-الاستمرار في مهمة الدفاع الجماعي.
-المحافظة على امن الأعضاء وزيادة مسؤولية الأعضاء الأوروبيين في الدفاع عن أنفسهم.
-استمرار الهيكل العسكري للحلف وإعادة بناؤه ليعتمد أكثر على تعداد الجنسيات، وتكون قدراته أكثر مرونة وخفة وحركة حتى يمكن المشاركة في المهام الخاصة التي أبرزتها المتغيرات الجديدة .
-استمرار الاعتماد على كلا القوتين النووية و التقليدية.
لقد حدث تحول استراتيجي في مفهوم الحلف بين المجموعة الأوروبية و الولايات المتحدة حيث ركز الأوروبيون على امن الأعضاء بينما كان المفهوم الأمريكي يركز على المصالح الأمنية19. حيث تم تحديد التهديدات الجديدة على النحو التالي:
-انتشار أسلحة الدمار الشامل.
-الإرهاب الدولي.
-انقطاع وصول الموارد الحيوية.
-نشوء أزمات إقليمية قابلة للتطور السريع في المناطق المحيطة بدول الحلف.
-انتهاك حقوق الإنسان.
-التهديد باستخدام القوة المسلحة أو قيام دولة ما باستخدامها فعلا ضد أراضي أي دولة أخرى. 
إن المحلل لهذه التحديات الجديدة للحلف يدرك البعد العالمي للأدوار الجديدة للحلف، بحيث لم تصبح بؤرة اهتمام الحل ممركزة في حماية أوروبا والوقوف في وجه تهديدات الاتحاد السوفييتي فقط، لكن تكونت تهديدات جديدة في أراضي ومناطق بعيدة عن الحدود الأطلسية وهذا ما يطلق عليه بالمفهوم الاستراتيجي الأول.
ب/ تدخل حلف الناتو في ليبيا:
في سنة 2010 ظهر المفهوم الاستراتيجي الثاني20 ليوضح ويحدد الأطر التي تستوجب انخراط الحلف في أعمال عسكرية. تضمن ما يلي: يمتلك الحلف قدرات عسكرية وسياسية تسمح له بالتعامل مع الأزمات.
- البيئة الأمنية لم تعد أراضي الناتو فقط، خصوصا في إطار الحفاظ على الموارد الإستراتيجية كأمن الطاقة.
- طبيعة الأزمات التي تكون خارج أراضي الناتو قد تهدد مصالحه بشكل مباشر.
استند الأعضاء القياديون في منطقة حلف شمال الأطلسي إلى قرار مجلس الأمن (1973) 2011 والقاضي بان تقوم الدول المعنية باتخاذ جميع التدابير اللازمة لتنفيذ الحظر الجوي عن طريق التعاون والتنسيق بين الدول الأعضاء21 كما تنص بذلك المادتين 8 و9 . كما استند الحلف كذلك إلى قرار الجامعة العربية رقم (7298) مارس 2011 والذي يطلب من مجلس الأمن تحمل مسؤولياته إزاء تدهور الأوضاع في ليبيا. ومن ثم صاغ الحلف المبررات القانونية اللازمة22 لقيام بحملة جوية ضد ليبيا. رغم أن قراري الجامعة العربية و مجلس الأمن المذكورين أعلاه أشارا بوضوح إلى تحمل مجلس الأمن مسؤولياته بخصوص فرض حظر طيران جوي لحماية المدنيين – حظر الطيران من اجل أهداف إنسانيه - إلا أن العمليات العسكرية تعدت ذلك إلى قصف المقرات والمواقع الرسمية ، كما استند الحلف إلى مبررات أخرى  تتمثل في كون الدولة الليبية على وشك الانهيار وتعتبر منطقة رخوة للإرهاب تنطلق منها القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وهي منبع مهم للطاقة وممر استراتيجي نحو دول الساحل الإفريقي. كل هذا دفع الحلف الأطلسي إلى القيام بمجموعة من الطلعات الجوية ابتداء من شهر مارس 2011 إلى غاية إلقاء القبض على العقيد القذافي ومقتله، بذلك أعلن راسموسن عن انتهاء العمليات العسكرية الرئيسية في ليبيا.
الخاتمة:
يتضح من خلال ما سبق ان سياسة حلف شمال الأطلسي قامت على أسس عسكرية من خلال عملية الدعم الفردي و اللوجستيكي للعمليات العسكرية الرئيسية في العراق عام 1991، ومن خلال الضربة الجوية المركزة ضد ليبيا سنة 2012، و يرجع ذلك بشكل أساسي الى تكييف المفاهيم الاستراتيجية التي تحكم عقيدة الحلف العسكرية، حيث تحولت من مواجهة خطر زحف الاتحاد السوفييتي نحو الغرب زمن الحرب الباردة ، إلى التعامل مع التهديدات الجديدة للنظام الدولي الجديد وما تشكلته المنطقة من تحديات للأمن الدول وهذا وفقا للمفهوم الاستراتيجي الأول ما انطبق على حالة العراق 1991.
وتطور المفهوم الاستراتيجي الثاني للحلف للتعامل مع الأزمات التي من شانها أن تشكل تهديدا جديا للمصالح الإستراتيجية لدول الحلف ولو كان ذلك في مناطق لا تتاخم جغرافيا إقليم الحلف  ما يعني اتساع البيئة الأمنية للحلف وهو تحديدا ما وقع في ليبيا 2012.  
تعمل الدول الغربية الآن جاهدة لإيجاد صيغة قانونية او فرصة إستراتيجية من اجل التدخل في سوريا التي تعرف حربا أهلية منذ أكثر من سنتين في إطار ما يسمى بالربيع العربي. لكن الدعم الروسي الواضح للنظام السوري يجعل من تمكين هذا الخيار أمرا غير مطروح إن لم يكن من الصعب تحقيقه. وذلك لثلاثة أسباب أولها الدعم الروسي للنظام السوري، حيث يعلم كلنا أن روسيا هي الوريث الشرعي للاتحاد السوفيتي من حيث الترسانة النووية والقوة الإستراتيجية الصاروخية ومن حيث المقعد الدائم في مجلس الأمن وحق التصويت بالنقض الفيتو، ومن ثم فان روسيا تعمل كل ما في وسعها على إبقاء حليف متقدم مباشر وسط مجموعة من الأنظمة السياسية الموالية لواشنطن وتعمل من اجل عدم ضياع حليف آخر كما حدث مع العراق ومن بعده ليبيا. أما ثاني الأسباب فهو الحلف الاستراتيجي الموقع بين سوريا و جمهورية إيران الإسلامية بحيث ينص على أن الاعتداء على احد الدولتين يعني تماما الاعتداء على الدولة الأخرى حيث تعتبر إيران كذلك حليف لموسكو في إطار البرنامج النووي وعملية تخصيب اليورانيوم . أما الثالث فيرجع إلى التحول الحاصل في العقيدة الإستراتجية  للولايات المتحدة  في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، والتي ترفض سياسة التدخل الخارجي العسكري المنفرد وترغب بذلك في توظيف القوة الذكية عوض القوة الصلبة أو الناعمة في السياسة الخارجية .  
في هذا الإطار تأخذ روسيا دورها الجديد كعضو مراقب في حلف شمال الأطلسي الذي يستمر في الاتساع نحو الشرق باطراد أضف إلى ذلك كونها واحدة من الدول الكبرى (G8)، ومن ثم فان دخول روسيا في مواجهة مباشرة مع القوى الغربية الأطلسية أمر مستبعد في ظل الوضعية الحالية ، وكذا عدم رغبة الغرب في خسارة الدور الدور الروسي سواء في منطقة الشرق الأوسط لدعم السياسات الغربية في المنطقة وتشجيع الهجرة إلى إسرائيل أو عدم استعمال حق النقض الفيتو ضد بعض القرارات المهمة للمصالح الأمريكية والغربية في مجلس الأمن.
مما سبق فان السيناريو المتوقع هو استمرار الوضع على ما هو عليه في الأحداث السورية في ظل عجز الغرب عن تطوير صيغة مشتركة مع موسكو لبلورة عملية عسكرية تقضي على النظام السوري. ومن ثم يمكن القول بان استمرار دعم المعارضة السورية بالأسلحة النوعية يبقى خيارا مهما لكن على قادة المعارضة السورية أن يدركوا أن أي دعم غربي لن يكون مجانا و الغرب لا يقدم الأسلحة لمن يوالي غيره في المستقبل.
الهوامش:
[1] محمد يعقوب عبد الرحمان ، التدخل الإنساني في العلاقات الدولية ، (أبو ظبي : مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية ، 2004)، ص.15.

2 P.H.COLLINS, Dictionary of politics and governments ,ed, 3, (LONDON: BLOOMSBURY PUBLISHING .2004), p.125.

3 محمد يعقوب عبد الرحمان، مرجع سابق،ص.16.

4 نيكولاس.ج.ويلر، "التدخل لأغراض إنسانية وعلاقته بالسياسة الدولية"، في ستيف سميث و جون بيليس، عولمة السياسة العالمية ط.1 (دبي:مركز الخليج للأبحاث ، 204).ص.819.

5 محمد يعقوب عبد الرحمان ، مرجع سابق ، ص.16.

6 إدريس لكريني ،"التدخل في الممارسات الدولية الراهنة بين الحظر القانوني والواقع الدولي المتغير"، متوفر على  الموقع الالكتروني: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=69057

7 محمد يعقوب عبد الرحمان ، مرجع سابق ، ص.18.

8 "منظمة حلف شمال الاطلسي(الناتو)"، يمكن الاطلاع على مضمون البحث في الموقع الالكتروني: http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Monzmat3/NATO/sec02.doc_cvt.htm.

9 أشرف محمد كشك،"من الشراكة الجديدة إلى التدخل في الازمات العربية ،" السياسة الدولية ، ع.185 ( جويلية 2011)

10 المرجع السابق.

11 المرجع السابق.               

12 ًمستقبل أمريكا في الشرق الاوسط ً، يمكن الاطلاع على النص في الموقع الالكتروني: http://www.annabaa.org/nbanews/69/584.htm

13 جميل طاهر، ّالنفط والتنمية المستدامة في الاقطار العربية:الفرص والتحديات ّ يمكن الاطلاع على مضمون البحث على الموقع الالكتروني:

  http://www.arab-api.org/images/publication/pdfs/244/244_wps9701.pdf

14 التقرير السنوي للامين العام لمنظمة الاقطار العربية المصدرة للنفط (التقرير رقم 38 ).

15إدريس لكريني، ًالعالم العربي مأزق الاستبداد بين صمت النخب وإرادة الشعوبً، متوفر على الموقع الالكتروني: http://akhbaralarab.net/index.php/opinions/33942-2011-02-25-12-27-21

16 عبد الوهاب عبد الستار القصاب، احتلال ما بعد الاستقلال التداعيات الإستراتيجية للحرب الأمريكية على العراق، ط.1 (بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية،2007)، ص.109.

17"منظمة حلف شمال الاطلسي(الناتو)"، يمكن الاطلاع على مضمون البحث في الموقع الإلكتروني http://www.moqatel.com/openshare/Behoth/Monzmat3/NATO/sec08.doc_cvt.htm

18 المرجع السابق.

19 المرجع السابق.

20 أشرف محمد كشك ، المرجع السابق.

21قرار مجلس الأمن (1973) مارس 2011

22أشرف محمد كشك ، المرجع السابق.

No comments :

اضافة تعليق

الرجاءالتعليق باللغة العربية الفصحى

page

جميع الحقوق محفوظة © 2013 مدونة القانون المغربي
تصميم : يعقوب رضا